تتجاور نقابتا الصحفيين والمحامين فى شارع عبدالخالق ثروت. يفصل بينهما سور، ويفضل المحامون كافتيريا نقابة الصحفيين مكيفة الهواء فى الدور الثامن، هربا من كافتيريا نقابة المحامين المزدحمة، التى تقدح فيها الشمس طوال اليوم.
العلاقة بين النقابتين علاقة تأثير وتأثر. فى العقد الأخير سرت فى النقابتين عدوى «النقيب المعارض»، عرفتها أولا نقابة المحامين فى شخص «سامح عاشور»، ثم عرفتها نقابة الصحفيين فى شخص «جلال عارف». وحين جاء نقيب محامين ناصرى لم يتصادم مع النظام، تساءل الصحفيون لماذا دائما ننتخب نقيبا حكوميا؟
وجاءوا بالنقيب السابق جلال عارف. فى المرة الأولى لانتخاب كليهما كانت الحكومة تزكى مرشحين آخرين، ولكن فى المرة الثانية لانتخابهما لم تعبأ بالأمر، وتركت الساحة للنقيبين الناصريين للحصول على دورة ثانية. هذه المرة جاء التأثير عكسيا، أى من نقابة الصحفيين إلى نقابة المحامين، فقد رحل جلال عارف، وتصاعدت الأصوات المطالبة بنقيب خدمات حكومى، وهو ما حدث بانتخاب الأستاذ مكرم محمد أحمد، ثم سرت «العدوى» إلى نقابة المحامين فى الانتخابات التى جرت منذ أيام، وجاءت بالأستاذ حمدى خليفة.
(1)
فاز نقيب محامين الجيزة حمدى خليفة بمنصب نقيب المحامين، المنصب الذى يحسده عليه كثيرون. البعض لجأ إلى سلاح التشهير المعروف فى الحياة السياسية المصرية طعنا فى شخصه نظرا لأنه بدأ حياته العملية كاتبا فى المحكمة، ثم دخل عالم القانون، ومنه انتقل إلى القضاء الواقف. والبعض الآخر رصد له مؤلفات ثلاثة دارت حول الجنس شكلا ومضمونا دون أن يكون له مرجع قانونى يشار إليه. أسرار نجاح الرجل فى انتخابات قاسية لم تكشف بعد، باستثناء إعلان الإخوان المسلمين مساندتهم له رغم أنه عضو بالحزب الوطنى، للإطاحة بالنقيب السابق سامح عاشور الذى بينه وبينهم مصانع الحداد كما يقال. الملفت أن ينال حمدى خليفة، عضو الحزب الوطنى، تأييد الإخوان المسلمين، فى الوقت الذى تمتع فيه سامح عاشور، نائب رئيس الحزب الناصرى، بتأييد الحزب الوطنى ممثلا فى أمين التنظيم المهندس أحمد عز، وهو ما يرجح البعض أن يكون ذلك سببا فى سقوطه فى سياق ما يعرف بالتصويت الاحتجاجى ضد الحكومة، والحزب الوطنى، وهو ما أصبح سببا متداولا لتفسير الصعود السياسى للإخوان المسلمين فى الانتخابات البرلمانية عام 2005.
هذه هى الصورة الشائعة فى الإعلام منذ إعلان نتيجة انتخابات نقابة المحامين. والسؤال هو: هل تحمل خلفية المشهد ملامح أخرى؟. التنسيق واضح ومعلن بين سامح عاشور، وقائمته القومية التى أدرج فيها مرشحى الحزب الوطنى، ورغم ذلك سمعنا أصواتا فى الحزب الوطنى تتنصل من التنسيق، والبعض يصفه بأنه مجرد «تكتيك» انتخابى، لتعظيم فرص نجاح عضو الحزب الوطنى حمدى خليفة.
ومن ناحية أخرى فإن الدعم الإخوانى حاسم للمرشح المنافس حمدى خليفة، إلى الحد الذى جعل أحد المرشحين المزمنين فى انتخابات نقابة المحامين، الأستاذ رجائى عطية، يكتب مقالا عقب الانتخابات يحوى ألوانا من الغضب، والعتاب، والرغبة فى إثبات الذات، وإدانة الإخوان لدعمهم مرشحا آخر هو حمدى خليفة. الكتلة التصويتية للإخوان فى نقابة المحامين غير محددة، يقدرها أحد المحامين النشطاء فى العمل الحقوقى بنحو خمسة وعشرين ألف صوت، ويبرر ذلك بالعودة إلى نتائج الانتخابات السابقة والحالية، والتى يبدو فيها أن حجم هذه الكتلة يتراوح حول هذا الرقم، وهو ما جعل محاميا بارعا مثل رجائى عطية يجمع آلاف الأصوات فى الانتخابات السابقة، حين كان مدعوما من الإخوان المسلمين، ثم يحصد هذه المرة بضعة آلاف، لا تتناسب مع قامته أو وزنه الفكرى أو المهنى، بعد أن تلاشى عنه الدعم الإخوانى.
(2)
أيد الإخوان المسلمين، بالضربة القاضية، على حد تعبير سعد الكتاتنى رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان فى مجلس الشعب المرشح حمدى خليفة، الذى لم يكن يتوقع أحد أن يكون الفرس الكاسب فى هذه المعركة، وهو شعور لم يخالجه شخصيا. فقد استفاد الرجل من معركة تكسير العظام لسنوات بين سامح عاشور ورجائى عطية، ودخل من الباب الهادئ. لا توجد له خصومة مع أحد، ولم يكن فى يوم من الأيام طرفا فى معركة سياسية أو صراع فكرى، كل ما حمله، وسبق أن نفذه فى نقابة محامين الجيزة، هى «الخدمات النقابية»، فى الوقت الذى بدا فيه سامح عاشور متحديا، واثقا من الفوز، يلاحقه شعاره «النقيب هو النقيب».
جاءت نتيجة الانتخابات ذاتها تعبيرا عن التنوع الحزبى والسياسى فى النقابة. إذ تقاسمت القائمتان «القومية» ــ قائمة سامح عاشور ــ و«القوى الوطنية» قائمة الإخوان المسلمين ــ ستة مقاعد على المستوى العام (من إجمالى خمسة عشرة مقعدا)، فى حين حصلت القائمة القومية على عشرة مقاعد، وحصلت القائمة الوطنية على تسعة مقاعد على مستوى المحاكم الابتدائية.
دخل اليسار مجلس النقابة الجديدة بثلاثة مقاعد، واحتل المستقلون مساحة معتبرة بنحو اثنى عشر مقعدا. لم ينجح قبطى واحد فى الانتخابات رغم أن هناك مرشحين أقباطا أدرجوا على القائمتين هم ماجد حنا، وفايز لوندى، وعادل رمزى. فقد خلا المجلس المكون من ستة وأربعين عضوا، وهو التشكيل الجديد بموجب تعديل قانون المحاماة عام 2008 من الأقباط، كما خلا كذلك من العنصر النسائى، وغلب عليه الطابع الذكورى المطلق. وهكذا تثبت الأحداث أن الحضور القبطى والنسائى فى تقلص شديد على مستوى المؤسسات النقابية، إذ تخلو مجالس معظم النقابات المهنية من الأقباط، وبعضها يضم عناصر نسائية محدودة، دون أن تكون لها أى فاعلية.
اللافت للنظر أن الوعى بأهمية التنوع غير قائم فى المعارك الانتخابية، وإذا كان للنساء من يدافع عنهن، وحضورهن فى الحياة العامة (المجلس القومى للمرأة)، ففى حالة الأقباط لا يوجد من يدافع عنهم سوى الحس الوطنى العام بأهمية التنوع والمشاركة، والذى أتصور أنه فى حالة تآكل، وتراجع واضح.
(3)
نقيب المحامين الجديد حمدى خليفة أعلن منذ اليوم الأول أنه لا توجد له خصومة مع أحد، فلا توجد لديه خصومة مع الحكومة، أو أى حزب أو فصيل سياسى آخر. البعض يرجح أن يقود النقيب الجديد نقابة المحامين إلى مرحلة استكانة أو مهادنة مع الحكومة. فهو بحكم خلفيته المهنية، وتكوينه الشخصى لا يميل إلى الصدام السياسى، فضلا عن انتمائه لحزب الحكومة فى المقام الأول.
وهنا يبدو أن نقابة «الصحفيين» قد أثرت هذه المرة فى جارتها نقابة «المحامين». ففى 17 نوفمبر 2007م، انتخب مجلس نقابة الصحفيين، برئاسة الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين، على أجندة «تقديم خدمات نقابية» بدلا من انشغال النقابة «بالسياسة»، التى أصبحت سلالم النقابة شاهد إثبات عليها طيلة الأعوام الماضية.
وبعد مرور ما يقرب من عامين على المجلس الحالى، لم تقدم خدمات للصحفيين ذات بال، والوعود التى أطلقت حول «المدينة السكنية»، و«معارض السيارات»، وغيرها لم تتحقق على أرض الواقع وسط لغط شديد شارك فيه أعضاء من مجلس النقابة نفسه. ويذهب قطاع من الصحفيين، كما يظهر فى المدونات ورسائل البريد الإلكترونى واللقاءات المختلفة، إلى أن نقابة الصحفيين لم يعد لها صوت فى الشأن العام، ناهيك عن الشأن الصحفى الخاص. فلم تظهر النقابة فى الأزمة التى شهدتها العلاقة بين صحفيين من مؤسسة «الأهرام»، ورئيس مجلس إدارتها، وهو نفس الغياب الذى يظهر فى قرارات ضم بعض الإصدارات القومية، والصحفيين التابعين لها إلى مؤسستى الأهرام والأخبار، وما ترتب على ذلك من احتجاج بعض الصحفيين من المؤسستين.
وأكثر من هذا، تسود الصحفيين مخاوف من تخفيض البدل النقدى الذى يحصلون عليه شهريا، مع استمرار تأخير صرفه، بما يستتبع تدخلات عليا فى كل مرة. وفى الوقت الذى لم يحصل فيه الصحفيون على جنة الخدمات الموعودة، لم يعد لنقابتهم صوت سياسى، لا فى قضايا الرأى، ولا حرية التعبير، ولا فى الشأن السياسى العام، وأكثر من هذا شهد مجلس النقابة خلافات حادة، كان أحدها، وأكثرها ضراوة وتجاوزا، منع مؤتمر لجماعة «مصريون ضد التمييز»، مرتين: الأولى عنوة، والثانية رضاء. ولم يملك نقيب الصحفيين فى الحالتين سوى التعبير عن الأسى، والغضب، والرفض.
علاقات التأثير والتأثر بين نقابتى المحامين والصحفيين، هى تعبير عام عن حالة جموع المهنيين، ويكشف شارع عبدالخالق ثروت ليس فقط ما آل إليه التمثيل النقابى للصحفيين والمحامين، ولكن الأكثر من ذلك تراجع، وانكماش، وترهل الطبقة الوسطى المهنية.