لم يكُن المكانُ الضَّيق بحرارته المُرتفعة صالحًا للجلوس، ولا كانت أطباقُ الفولِ الصغيرة صالحةً لإسكات الجوع. ثار بعضُ أفراد العائلة على مُستوى الخِدمة ولم يقتصر الأمر على مائدتِهم؛ فقد اعترض الزبائنُ في ثانية، وزعقت امرأةٌ تُجالِس طفليها في ثالثة، وتحوَّلت الصالةُ خلال دقائق إلى ساحةِ عراك؛ بينما صاحبُ المكان يتذرَّع بغلاءٍ فاحشٍ في مُكونات الطعام، وفاتورة الكهرباء؛ بما لا يتركُ أمامَه سبيلًا للاستمرار.
• • •
يأتي الفعل صَلَحَ في قواميس اللغة العربية بمعنى نفع ولاءم، اسم الفاعل صالح والمصدر صلاح وصلاحية، وإذا قيل صَلَحَ الأمر؛ فقد صار حسنًا مناسبًا، أما إذا صَلَح المرءُ؛ فقد طاب خلقه واستقام، والصُلح بضم الصاد إنهاءٌ لحال خصومة.
• • •
"صالح هيصة" رواية بديعة لخيري شلبي تدور أحداثها حول عالم المُثقفين. قرأتها منذ أعوام وغادرت بعضُ تفاصيلها ذهني؛ لكني لم أزل أذكر جيدًا أن بطلها صالح ليس بصالح تمامًا، وأن الهيصةَ لا تخصُّه وحده؛ بل هي حالٌ عامةٌ شاملة، يغرق في دواماتها كلُّ شيء.
• • •
تقع عيناي كثيرًا على واحدةٍ أو أكثر من قنواتِ الشاشة الصَّغيرة التي تقدم عناوين براقة توحي بالحكمة والحصافة؛ فما أن ينتبه المشاهد للتالي ويدقَّق في المعنى والمحتوى؛ حتى يدرك كم هو فارغٌ أجوف، لا يَستحقُّ أن يذاع وأن يُخصَّص له وقت. ينتقي كثير المُعدين ما يندرج تحت بند السطحيَّة والسَّذاجة للبثِّ العام، ورغم وجود المادةِ الجادةِ عَميقة المغزى؛ فإنها تبقى حبيسة الحبر الذي كُتِبَت به؛ إذا لا يراد لأحد أن يتفكر فيها أو يعمل بها.
• • •
الاصطلاحُ على كلمة يعني التوافُق على القصدِ من ورائها، واستعمالها استعمالًا واحدًا يفهمه مختلف الأشخاص، وقديمًا قيل إن العلاقةَ بين الكلمة ومعناها تنشأ اعتباطًا، ثم يتعارف الناس عليها ويقرونها؛ فإذا بها تغدو متداولةً مألوفة. عادة ما يُذكَر الصالح والطالح في معرض الحديث عن المتناقضات. الأول صاحبُ خلق حميد والثاني فاسد شرير، والحق أن كليهما يبدو واضحًا لا حاجة به لمداراة طبيعته وانتحال ما ليس له من صفات.
• • •
التصالح مع الواقع المُفجِع فعلٌ سلبيّ في غالب الأحوال؛ إذ هو رضاء، والرضاء قبول، والقبول يكون في بعض الأحوال مؤسيًا؛ فثمة ما يجب على الإنسان ألا يفسح له المجال، وثمة ما يجب أن يتوقف أمامه ويرفضه. على جانب آخر؛ يبدو التصالح مع الذات فعلًا شجاعًا مُقدَّرًا؛ لكنه لا يعني بدوره أن يتساهلَ المرءُ مع نفسه وأن يعطيها الضوء الأخضر على الدوام. على كل حال يحمل التصالح ضمن معانيه فكرة المسامحة وترك نوازع الانتقام، والحق أنه لا محل لأيهما ما وقع عدوان؛ فإن ذكرت المفردات السابقة على إجمالها، جاءت معها قصيدة أمل دنقل: "لا تصالح" التي حفظنا كلماتها ورددناها صغارًا، ولم تزل تتكرر في العقول والقلوب حيَّة قاسية.
• • •
المَصلحة في اللغة هي كل ما يُرجى منه خير للشخص؛ لكن المصلحة التي نقصدها في كلامنا الدارج قد تشير إلى مفهوم مختلف قد يقتضي بعض المواءمات غير المُرضية على مستوى الضمير. ثمة مصالح مالية واقتصادية وأخرى سياسية؛ تتحول إلى واقع مُذل مُهين ما رضخ الناس لها.
• • •
لم يَعتد أغلبُنا البحثَ عن تاريخ الصَّلاحية على المُنتجَات المُختلفة. غالبًا ما نحملها ونمضي ولا نعبأ بالنتائج. يبدو هذا السلوكُ ناجمًا عن خليطٍ من أحاسيسٍ مُتناقضة مُرتبكة وأحيانًا زائفة؛ يشترك فيها الشعور بالأمان مع الاستهانةِ مع العَجز والتَّسليم بالواقع؛ فكثيرًا ما نتوقع الغش ولا نثق في إمكانية مُعاقبة الغشّاش وبالتالي نتجاهل الأمرَ بدءًا بالخطوة الأولى.
• • •
في بلدان العالم المُتحضِّر؛ توجد تنبيهاتٌ حول مدى صلاحية ماء الصنبور للشرب، وفي مناطق أخرى عديدة لا يهتم الناسُ للأمر كثيرًا؛ إذ لا يملكون رفاهيةَ شراء مياهٍ معدنية، ولا يكترثون لما قد يحلُّ بهم جراء طفيليات أو كيماويات تلوث أبدانَهم، وتترك فيها بَصمةً مُخيفة.
• • •
في الآونة الأخيرة، تحوَّلت المياه إلى سلعة ضمن سِلعٍ كثيرة شملتها دعاوى المُقاطعة، وأسفرت عن خلقِ سوقٍ تنافُسية. دَخلت أحد المطاعِم مع بعض المَعارف والزملاء، فجاءت زُجاجات المياه التي نقاطعها. سألنا عن غيرِها فنفى النادلُ، سألنا عن عصائر فلم نجد إلا مياهًا غازية نقاطعها أيضًا. طلبنا الأطباقَ التي نريدها وتطوَّع زميلٌ بإحضار زجاجات صَديقة من خارج المكان؛ تصلح للاستخدام دون شعورٍ بالخزي والهوان، ولم نجد من أصحابِ المطعَم دهشةً ولا عجبًا.
• • •
الصَّلاح كلمةٌ شديدة العمومية، والشخصُ الصالِح يُعرَف عند الناس بسِمات كثيرة يصعُب حصرها، ربما رأوا في صاحبِ التديُّن والتقوى صلاحًا أكيدًا، وربما وجدوه في الكريم المعطاء، أو في هذا الذي يساعد غيره وقت الشدة بما يملك، أو في صاحب الواجب الذي يُجامِل الآخرين في فرح أو حزن، وربما في شَخصٍ لا يُدير وجهَه عمَن شهدوا بداياته وساندوه.
• • •
إذا نجح واحد في فَضِّ اشتباك وقع بين آخرَين؛ فقد أصلح بينهما. أصلح فعل يحتاج إلى مفعول به، فاعله مُصلِح بكسر اللام، ومصدره إصلاح.
• • •
غنَّت نادية مصطفى في مطلع التسعينيات "الصُّلح خير قُم نتصالح وانسى اللي كان بيننا امبارح"، الأغنية من ألحان حسن نشأت وكلمات مصطفى الشندويلي وتعد من أشهر أعمالها إلى جانب "سلامات". النسيان في بعض المرات سهلٌ قريب؛ لكنه يغدو في مرات أخرى مستحيلًا، وإذا كان الصُّلح مُحببًا؛ فأسباب الخصام قد تكون عصيَّة على الزوال.