بمجرد أن وصلَ الضيوف؛ وكان فيهم من يطرق عتبات البيت للمرة الأولى؛ حتى بادرت امرأة تقول لمن سبقها إلى الدخول: خُشّ بقدمك اليمين. عادة قديمة درج الناس عليها إن زاروا مكانًا جديدًا لم يروه من قبل. اليمينُ في المَوروثِ الدينيّ خيرٌ من اليسار، والنصيحة التي تأتي تلطفًا بالمُضِيفِ، إنما تصبو لدرءِ الشرّ عنه واتخاذ أسبابِ الحَيطة والوقاية؛ ولو لم يُؤمِن بجدواها المَنصوح.
• • •
يأتي الفعلُ خَشَّ في قواميس اللغة العربية بمعنى دَخل، ويُقال خشَّ الرجلُ بيتَه أي دَلفَ إليه، وخشَّت الإبرة القماش أي ثقبته. الفاعلُ خاشٌ والمَفعول به مَخشوش، وثمَّة معنى آخر نادر الاستخدام؛ فحين تمتنع السُّحبُ عن إسقاطِ المطرِ الوفير، تُوصَف بأنها قد خشَّت.
• • •
بعضُ المرات يتلاعب واحدٌ بالآخر لائذًا بمعسول الكلام؛ فإذا كان المُستمِع واعيًا ردَّ عليه بالحسّ الشعبيّ الأًصيل: خُشَ في عبّي خُشَ. عبُّ القميص أو الرداء هو كُمُّه، وتُنطَق الكلمةُ بضمّ العين، والعبارة شائعة منتشرة، تعكس تمرُّسَ قائلها وقدرتَه على كشفِ الحيلِ وتمييز الجَّد من العَبث؛ وإن تجمَّل وبكل وسيلةٍ مُتاحة، والحقُّ أن اليقظة تحمي صاحبَها من فِخاخ كثيرة، أما الغافلُ فلا يدرك في العادة ما يُحاك له؛ إنما يقع في الشّرك ببساطة، وما أكثر الشِراك التي وقعنا فيها، وما أكثرَ الأكمَام التي دخلها العابثون بمُقدَّراتنا.
• • •
إذا حثَّ امرؤٌ صديقَه: خُشّ على الأكل؛ لعكس تعبيره الحماسيّ دعوةً صادقة لا تُقابَلُ برفضٍ أو تعفُّف. إزاء العزائمِ والولائمِ والمَوائد المُمتدَّة، قد يحار الضَّيف بأيّ أصنافِ الطعامِ يبدأ، أما الجائع فمن النادرِ أن يتأنّي، بل ينطلق في سرعة ويَخُشُّ على الأطباق دون تمييز أو دعوة؛ إذ جميعها تملأ البطنَ وتُشفي الشوقَ وتُوقِع في القَّلبِ مَسرَّة؛ لا تضاهيها أخرى.
• • •
للقلبِ أدوار إضافيةٌ، فالإنسان رقيقُ الحاشية، عذبُ الحضور، يَخُشُّ القلبَ بلا استئذان، والقصد أن صفاته المُحبَّبة تُسقِط الحواجزَ منذ اللحظةِ الأولى بينه وبين الآخرين. كثيرًا ما يتلقى المرء التشجيع بقولة: خُشّ على الصعب بقلبٍ من حَديد، والمُراد أن يَمضيَ إلى مُواجهة ما يرهبُ بثبات. قد يُنصَح الواحد أيضًا بأن "يخُشّ شِمال" في هذا الذي يخوفه ويزعجه؛ أي أن يبادر إلى مهاجمته باللفظ، لعل الجرأة تهزُّه وتُوقِعه من عليائه، وعلى امتداد هذا الخطّ يأتي المأثور: خذوهم بالصَّوت. المُبادرة هي المفتاح في الحالين، ولا يُنظَر حينها إن كان المرءُ على حقٍ أو على باطل.
• • •
في بداية معركة ما، قد يصيح أحد المتعاركين مُلوحًا بذراعيه في مواجهة الآخر: خُشّ عليّ، فإن خش بالفعل عليه وعجز الاشتباك بالأذرع عن حلّ الموقف؛ قد يتطور الأمر ويتهور أحد المتضاربين فيتناول أداة يخشّ بها غريمه؛ أي يناوله طعنه.
• • •
تطلق لفظة الخشخشة في العادة على صوت الورقِ الجَّاف اليابس ما تداخل، واحتكَّ ببعضه البعض أو تكسَّر تحت الأقدام، أما الخشخاش فنبتةٌ عشبية مُزهرة فاتنة الجمال، يُستخلَص منها مخدر قويّ هو الأفيون، وقد استُخدِمَت صورتها في عملات بعض الدول مثل مقدونيا وكندا، كما تحوَّلت إلى موضوع لوحة شهيرة للفنان فنسنت فان جوخ في العام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين؛ لكن هذه اللوحة تعرَّضت للسَّرقة من متحف محمود خليل عام ألفين وعشرة، وظلت تفاصيلُ اختفائها غامضةً رغم العقوبات التي طالت كبارَ المسئولين، أما عن قيمةِ اللوَّحة الحاليَّة فتقدر بما يزيد على الخمسين مليون دولار.
• • •
قد يعتزلُ الواحد الناس ويتجنَّبهم ما لم تدعه حاجةٌ مُلحَّة للاقتراب، فإن تغيَّرت الظروفُ واندمج بينهم؛ قيل إنه خَشَّ وسط الناس ولم يعد غريبًا عنهم، وإن مضى وقتٌ طويلٌ ثم التقى الأصدقاءُ من بعد افتراق، صاح أحدهم بالآخر: خُشّ في حضني؛ تعبيرًا عن الشَّوقِ الغامر.
• • •
حوش آدم هو في الأصل خُشّ قَدم باللسان التركيّ. حارةٌ في قاهرة المُعزّ، تحوَّر اسمُها ليناسب أهلَها ولهجتَهم والميلَ الإنسانيَّ العام للتبسيط، ويُحكى أن المملوكيّ أبو سعيد سيف خشقدم الناصريّ هو من أنشأها قبل قرون، وأن اسمَها يعني بالعربية "قدم السعد". زارها الشيخُ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم وغيرهما من الفنانين ذائعي الصيت، وإذا لم تزل المعالمُ القديمة من مساجد ومنازل قائمةً بها؛ فالرجاء أن تبقى لزمن آخر، وألا يطالها ما طال تاريخًا صار أثرًا من بعد عين.
• • •
خُشّي جوه؛ عبارة آمرة ناهية اعتدنا سماعها في المواقف المُحتدِمة التي تتخلَّل الأعمالَ الدرامية، وكثيرًا ما يرددها آباء وأمهات داخل البيوت، ويُفهم منها في العادة أن ثمَّة ما يتطلَّبُ الانفرادَ؛ لا يراد للأبناء والبنات حضوره، ولا يفضل أن ينصتوا إليه.
• • •
بعضُ الناس لا يتمكن من طَرق الأمر الذي يريد مباشرة، فيدبج المُقدماتِ ويَستفيض في التمهيد ويأتي بمبرراتٍ وأسباب قبل أن يُفصحَ عن الجوهر، إلى أن يملَّ الطرفُ الآخر ويفقد صبرَه ويستحثُّ هذا الذي يلفُّ ويدور: خُشّ في المَوضوع. الحديثُ المفيد يتجه مباشرة إلى بيت القصيد بغير أن يحوم حوله، والواثقُ في أمرِه يترك الحواشيَ إلى المضمون دون مطّ وتأجيل، أما وقد تكاثرت التوافهُ وتعاظمت الزوائد وطغت على حيواتنا؛ فقد بتنا نستمع طيلة الوقت إلى تُرهاتٍ تستغرقنا دون أن نجنيَ ثمرة.