على رف طويل أرى صورا عائلية من مراحل حياة صديقتى، رصتها بتسلسل زمنى تظهر من خلاله طفلة ثم مراهقة ثم شابة ثم سيدة ناضجة، فى الصور الأولى أرى صديقتى مع والديها ثم يختفى الأب وتبقى الأم بينما يظهر طفلا صديقتى حتى تقتصر الصور الأخيرة على لقطات من حياة أولادها.
***
لا أعرف كم من الوقت أمضيت وحدى أمام الرف بينما تنشغل صديقتى بأمور بيتها، ربما كانت دقائق معدودة مرت بى وبحياة كاملة بسطتها صاحبة الصور أمام الزائرين فى تلك الغرفة، أو ربما هى حيوات متداخلة وأدوار رئيسية تناوب عليها أفراد أسرتها، شعرت أننى فى حضرة ثلاثة أجيال من القصص، أعرف منها الكثير بحكم علاقتى المقربة من العائلة لكن فى الصور نظرات وتفاصيل جديدة علىّ.
***
فى منزل والدى أيضا، وربما فى منازل كثيرة، تظهر صور جديدة كل فترة فى أرجاء البيت، ومع كل لقطة مضافة، أكاد أن أجزم أن من يضع الصورة على الرف يعيد النظر إلى كل الصور السابقة كلها، وكأن الصورة الأخيرة هى آخر حلقة فى مسلسل حياة بدأت عند أول الرف، حياة تظهر الصور حلقاتها السعيدة، إذ لا أذكر أننى رأيت أبدا صورا لمواقف حزينة، فمن منا يحب أن يضع نصب عينيه لقطة يسترجع فيها ألما اخترقه؟ على الأغلب لا أحد.
***
اليوم وقد أصبحنا فى عصر الكاميرا الرقمية والهاتف الذكى، خفت عادة طبع الصور ووضعها فى ألبومات عند الكثيرين، كما خفتت وتيرة إضافة صور فى أطر فضية أو ذهبية على الأرفف فى البيوت، إلا ربما صور لأحداث مفصلية كصورة عروس يوم فرحها أو طفل يوم ولادته. وبينما أتوه فى حلقات حياة صديقتى أمام صورها، أتساءل إن كان فرش حياة بهذا الشكل أمامى يحزننى أكثر مما يفرحنى. أرى وجه صديقتى فى طفولتها وألاحظ للمرة الأولى كم تشبهها ابنتها التى أعرفها جيدا منذ أن ولدت. أقرب وجهى من صورة لصديقتى مع والدتها منذ نحو عشرين سنة: كم تشبه صديقتى أمها.
***
اختفى بعض ممن هم فى الصور، رحلوا عن عالمنا وحزنا عليهم بشدة عند الفراق. ها هم يطلون علىّ فى الصور بابتسامة فرحة وبعيون مترقبة لحياة لم يعودوا جزءا منها. الصور فوق الأرفف، على الأقل بالنسبة لى، مصدر لشجن عميق حتى لو ما زال من فى الصور حاضرا فى حياتى، فالمراحل التى فى الصور هى التى ذهبت، عذوبة نظرات الطفلة التى كنتها أو كانتها صديقتى اختفت. فرحة أخى وابتسامته المبهجة يوم تخرجه خفتت.
***
أشعر فجأة أن عادة تلخيص موقف فى لقطة قد يكون مجحفا بحق من هم فى الصورة، إذ لا يمكن اختزال فرحة أو احتفال بلقطة. الصور قاسية على من يقف أمام مسلسل كامل لم تخطط صاحبته لإنتاجه بهذا الشكل حين كانت تضيف إطارا معدنيا كل عام أو عامين فيه لقطة عن سعادة آنية. هى لم تفكر، كما لا أفكر أنا نفسى حين أطبع صورا لعائلتى، أن ثمة شخص سوف يقف يوما أمام حياتها أو حياتى فيراها كما تسلسلت سنة بعد سنة.
***
حين أزور والدى تجذبنى صور من طفولتى وشبابهما كل مرة دون استثناء، أقف أمام الرف فى بيت أسرتى وكأننى أرى ما فوقه للمرة الأولى حتى لو زرتهم كل يوم. أتعجب من الشبه بينى وبين أمى فى شبابها ثم بينى وبين ابنتى الطفلة اليوم. تذكرنى الحياة بأن ثمة نهر يتدفق بقوة متغيرة حسب الأحداث إنما لا يتوقف، ينقل معه بعض أوراق الشجر التى تخضر بفضل الماء فى البداية ثم تثقل بسببها أيضا قبل أن تبطئ من حركتها وتلتصق فى نهاية المطاف بإحدى ضفاف النهر وتبقى هناك. تماما كمن هم الصور مندفعين ثم مثقلين ثم بطيئين ثم ساكنين.
***
مسلسل الصور هذا يفتح طاقة فى داخلى تتسلل منها قصص لا ترويها اللقطات، «بتتذكرى يوم الصورة كيف تيتة كانت عازمة صاحباتها وأنا استغليت انشغالكم بالضيوف وأكلت الزيتون بالمطبخ؟» لا زيتون فى الصورة إنما ها هى القصة تعود إلى الحياة. «بتتذكرى يوم تخرج أخى لما تأخرنا فى الطريق وفكرنا أنه ممكن يستلم شهادته قبل ما نوصل بعدين استنينا فى الجامعة ثلاث ساعات قبل أن نراه؟» أسمع أصوات أخى وأصدقائه وأرى أبى ينظر إليهم بفخر، هذا كله ليس فى الصور إنما ها هو يخرج من طاقة فى داخلى فيتحرك المشهد من حولى.
***
أضع إطارا جديدا على الرف فيه صورة لأولادى الثلاثة التقطتها أخيرا ما زالت تفاصيل اللحظة قريبة وأتساءل إن كانوا هم سوف يتذكرونها بعد عشر سنوات أو عشرين. ربما لن أكون معهم وقتها، وسوف تقول ابنتى، أصغر أطفالى «بتتذكروا ماما لما كانت تصر توقفنا صف مثل العسكر كل سنة وتاخد صورة ونحن كنا نتذمر؟ يمكن كان معها حق تصر، وينك يا ماما تشوفينا كيف صرنا لما كبرنا؟»
كاتبة سورية