في لُغةِ المُتحدثين عن أهلِ السينما والدراما أوصافٌ وألقاب؛ تُطلق على عظماءِ المُمثلين وتصاحبهم في حياتهم وتظلُّ ملتصقة بسيرهم ما بعد النهايةِ، مُرتبطةً بما قدَّموا مِن أدوار. هناك لقب وَحش الشاشة الذي حاز عليه فريد شوقي، وسيدةِ الشاشةِ الذي تُوجَت به فاتن حمامة، وهناك أيضًا لقب شرير الشاشة المِصرية الذي ناله محمود المليجي عن جدارة؛ إذ قدَّم شرًا ناعمًا أصيلًا بلا ضجيج ولا صَخب، وإذا جاء ذِكرُ الأشرار في أدوارِهم؛ قفز إلى الذِهن شريرٌ خفيف الظِلّ يَعزُّ تكراره: ستيفان روستي الذي أضفى على أدوار الشَرّ صبغةً مَرِحةً لا تُضاهى.
***
لا يُمكن وصفُ حيّ بأنه شريرٌ إلا إن امتلكَ عقلًا، وقُدرةً على الإدراكِ والتفكير، وعلى التمييز بين أبيضٍ وأسود؛ ومِن ثمَّ ارتكاب الشَرّ. درجنا في الأشهر الماضية على وَصفِ الفيروس الذي اكتسح بلدانًا وقارات وأعجَزَ عن الفِعل أنظمةً وحكومات؛ بأنه شرير. حاولت أن أقنعَ أصدقاءً وزملاءً وزميلاتٍ بأن يمتنعوا عن هذا الوَصف؛ فلا يُمكن للفيروس أن يكونَ شريرًا بإرادتِه. إصابةُ الناسِ بالمَرضِ هي العملُ الوحيد الذي يتقِنه، وهو يؤديه بتفانٍ وإخلاصٍ ويُتمُّه على أكَمَلِ وَجه، كما أنه لا يملِك عدا ما يفعلُ بالبَشرِ خيارات. لم أفلح في مُحاولتي؛ فالغضبُ مما ألحقَ بنا ولا يزال؛ لهو أقوى مِن المُحاولات كُلها، والرغبةُ في الانتقامِ مِنه تفوق الاستعدادَ لإنصافِه؛ لكنا نحن أيضًا أشرارٌ؛ نبحث عما يقتُله ويَقضي عليه.
***
رغم ما تحمِلُ مِن قسوةٍ؛ اكتسَبَت مُفردةُ "الشرير" وقعًا طفوليًا في الأذهان، ربما لأن حكاياتِ الصِغار قد استخدمَتها بوفرةٍ؛ فباتت سهلةً مَنطوقة. لا يُوجد بين الأجيالِ متوسطةِ العُمر الآن، مَن لم يسمع بالساحرةِ الشريرةِ، والأرنبِ الشريرِ، وغيرهما مِن شخصياتٍ صاغَت الخيالَ في مَرحلةٍ مُبكرة، وجعلت للشرّ معنى مُوازيًا لما هو عليه في الواقع.
***
سمعنا تعبيراتٍ مُتعددة من قادةٍ حَول أرجاءِ العالَم، يتحدثون بها عن الشرّ والأشرارِ، قاصدين أشخاصًا بعينِهم في بعضِ الأحيان، ودولًا بأكملِها في أحيانٍ أخرى. رأينا مِحورَ الشرّ، وأهلَ الشرّ، وقوى الشرّ وما على دينها من جُمل وعبارات، تَصِفُ في مُجملِها عَدوًا وتُحَمّله مسئوليةَ ما وقعَ وما سيَقَع. تُدينه ثم تتوعَّده بالعِقاب.
***
شريرُ لُبنان الذي أحالَه جحيمًا لعقودٍ امتدَّت وطالت؛ ليس واحدًا مُفردًا بل مَجموع. البلدُ مَنكوبٌ بحُكَّامِه، رازحٌ تحت وطأةِ الفسادِ والإفقارِ، يُعاني شرورَ أصحابِ المَال والسُلطةِ والنُفوذ؛ قوى لا يُستهانُ بها إنما تستهينُ هي بالجميع. ثار اللبنانيون مؤخرًا على تقسيمٍ جَعلَهم في طوائفٍ يتوجَّس بعضُها مِن الآخر، ويتحسَّب لفعيله، ويراقِبُ أنفاسه. تقسيمٌ ضَربَ جُذورَه في الأرضِ والهواءِ وزَرَعَ مَخالبَه في النُفوس، وفرضَ الظُلمَ بدلًا مِن العدالةِ، وفرَّق أبناءَ البلدِ الواحد. ثار اللبنانيون ورفضوا النظامَ الذي استقرت عليه الأمور لأزمنة ثقيلة؛ لكن أصحابَ المصالح لا يتقوتون إلا على الفُرقةَ، ولا يزدهرون إلا بتفشّي الرَيبة والظنون. هو شريرُ المَشهد يَطُلُّ برأسِه كما جَرَت العادةِ مِن الثقوبِ المُتَّسعة.
***
بين المُصافحاتِ التي لم يعُد أحدٌ يُصدقها، وانفراجاتِ الشفاه المُتلونة، ورَبت الأكتافِ وكلماتِ الترحيب الباردة؛ تكمُن الطلقاتُ مُستعدةً للخروج، وما أبدعَ مَن ارتدى ثوبَ الوداعةِ ولعبَ دورَ الصديقِ الودود، ومَدَّ يدَ المُساعدةِ، مُنتظرًا فرصةً تسنح للانقضاضِ، وافتراسِ مَن أنهكَه التعبُ وأرهقته الظُّروف. قال المُتنبي وما أصدَق القول: إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزة . . . فلا تظُنَّن أن الليثَ يبتسم.
***
في مأساةِ التفجير الأخير الذي شهدَه لُبنان أكثرَ مِن شِرّير؛ كلٌّ يُؤدّي دورَه بمهارةٍ واقتدار، مُحققًا النجاح، حاصدًا المكاسِبَ ساعيًا وراء الأرباح؛ مادية كانت أو سياسية؛ لكن أهلَ أكثر البلدان بهاءً وحبًا للحياة، باتوا يدركون قواعدَ اللُعبةِ ويفطنون لخطواتِها. هم أيضًا لا يستسلِمون وإن تعقدت الحالُ، ولا يخضَعون وإن تكالب عليهم أشرار الساحة؛ فقد اعتادوا أن ينهضَ مَن سَقَطَ، ويُضَمّد الجراحَ، ثم يستأنف المَسير.