كان الطقس بديعًا، والسعادةُ تغمر الكونَ؛ وحسام في طور التثاؤب، يفتح عينًا ويغلق أخرى، ثم يتمطى مادًا ذراعيه لأعلى؛ فتصطدمان بضلفة النافذة المَفتوحة، وترتدان إليه ثانية؛ ليبتسم ويتثاءب مِن جديد.
أخذ اليومَ بكامله إجازة؛ كي يقوم بعملية بحث، شاملة مُدققة، يختار في نهايتها المدرسة التي ستستقبل صغيره في العام الجديد؛ عامه الأول المُشرِق السعيد.
***
ارتدى حسام ملابسه وتأمل الولد المُمسِك بجهاز التابلت؛ يلمسه لمسًا سريعًا مُحنكًا، ويحصل على مراده في ذكاء وتمرُّس؛ لا يتوفران لكثير مِن البالغين. التقط حافظته وسلسلة المفاتيح، وخرج مُعتدًا فخورًا، ترتسم في ذهنه لقطاتُ استحسانٍ وترحيب، يحتل فيها ولده دور البطولة.
على مدار اليوم؛ اتّبع حسام الخريطة المَوصوفة، قطع أشواطًا طويلة، وبذل جهدًا فاق ما بذله سيزيف في الأسطورة. دار مِن شرق المَنطقة إلى غربها، وجاب الشمالَ والجنوبَ، وأنفق ثروةً صغيرة؛ كي يجد لسيارته مَوضعًا بالقرب مِن كل مدرسة طرق بابها. صعد طوابقَ عالية، وطاف بحجراتٍ مُتعددة، وتعرض لاختبارات قاسية. أجاب عن أسئلةٍ قصيرة وأخرى مُطولة، وتذكَّر فيما يحاول العثور على الردود المناسبة؛ الاختبارات الشفاهية التي خاضها طالبًا في الجامعة.
***
في طريق العودة داعبت ذاكرتَه المُنهكة حقبةٌ ماضيةٌ؛ اقتصر فيها الجدل على الجدوى مِن حذف سنة دراسية أو دمجها مع أختها. همهمَ مواسيًا نفسه؛ كانت تلك أيامًا رتيبة، أما الآن فالحال حماسيةٌ مُثيرة، والتغيِّرات مُتلاحقة، والقرارات تنبلج مع الصباح، تعقبها أخرى في المساء، وما بين بدايات الليل وأطراف الفجر ساعات لا تخلو مِن زخمِ التعديلات والتحويرات؛ أمر ولاشك عظيم. أفتر ثغره عن ابتسامة مُعزية عندما استحضر نجابةِ الولد وبديهته؛ سيبلي أفضل منه قطعًا في مُقابلات التقييم.
***
انتفض حين رأى سيارة تغادر مكانها، فانحرف بحدة كي يحتلَّ المساحة التي خلت، قبل أن تشغلها سيارةٌ أخرى، ولما لم يكن في تخطيطه أن ينجز أمرًا محددًا في هذه المنطقة، فقد بقي أمام عجلة القيادة، وأخرج ورقة وقلمًا ليسجل ما صادف في نهاره؛ مراعيًا ألا تهرب منه أية تفصيلة، ولو لاحت تافهة وضيعة. غرق في التسجيل حتى أذنيه، وعندما انتهى؛ بدت القائمة التي صنعها مُزركشة مِن فرط ما أضاف لها مِن خطوط وأسهم ونجوم، وعلامات استفهام.
***
وصل مَنزله بسلام، لتستقبله زوجُه بلهفة وفضول. طلب مِنها أن تساعده على تلخيص المعلومات، وبلورة النتائج، قبل أن يتناولا الطعام. كانت تلك رغبتها هي الأخرى فسحبت مقعدًا بجواره؛ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة؛ معركة تحديد المصير.
اقترحت تقسيم المدارس إلى مجموعتين، واحدة للدولية وأخرى لما دونها؛ لكنها لم تلبث أن أضافت التجريبيةَ في مجموعة مِستقلة، ثم اللغاتُ التي تفرعت منها مدارس الرهبان والراهبات. تعددت المجموعات وتشتتت، وبعد أخذٍ ورد ومُداولات رهيبة، وبعد استعراض القيل والقال وسرد التجارب العائلية المريرة، تبين لحسام وزوجه أن المدارسَ الدوليةَ محذوفةٌ مِن خريطتهما لمصاريفها الفلكية، وأن مدارس اللغات صارت بلا لغات بعد القرارات الأخيرة، وأن المدارس التجريبية تجاوزت حد التجريب المعقول إلى اللا مَقبول، ولم يكُن اكتشافًا جديدًا أن المدارس الحكومية بلا تعليم. بدت الساحةُ شِبه فارغة أمام نوعٍ جديد مِن المدارس يسمعون به مِن بعيد، وبما له مِن مكانةٍ عالية وبريق؛ خيار لا يشبه ما سبق، ولا يمكن دمجه في أي مجموعة؛ لكن كشفَ الهيئة أثبت أنهما لا يملكان إليه السبيل.
***
مع مرور الوقت، تكاثفت في ملامحها علامات الملل، واكتنفت صوتَها نبراتُ الامتعاض والغضب؛ لكن حسام أوقفها بإشارة مُحذرة مِن يده، متوقعًا نواياها الخبيثة. كلُّ شيءٍ مَدروس؛ الأوضاع مستقرة ورائعة، وصعوبة الموقف لا تعني خللًا في المنظومة؛ الخلل حتمًا فيهما، والحيرة بالتأكيد ستنقشع عما قريب.
***
قاما مِن مقعديها وقد أرهقتهما الجلسةُ، متفقين على استئناف المشاورات مع طلوع النهار الذي اقترب. استقر حسام على الفراش، وراح يتقلب ببطء مُجترًا أفكاره، مُتنقلًا بين صحوٍ ناقص ونوم خفيف. ظهرت بشائر النور مِن وراء الشيش، فقام متجهًا إلى الحمام، فتح الصنبور فوقَ رأسه لدقائق حتى أفاق، ثم انتقل إلى الصالة حيث ترك القوائم والمعلومات. جلس يراجع ما دَوَّنَ، وما أزادت زوجُه مِن مُلاحظات، لكنه عجز عن اتخاذ قرار، فقد اختلطت الأمور وتعذر عليه الفهمُ مِن جديد.
***
سطعت الشمسُ مُبدِّدة حيرتَه؛ كان قد وصل إلى حلٍّ مُمتاز. لا داعي لحساباتٍ مُعقدة وترتيباتٍ مُستقبلية، فما يوجد اليوم لن يدوم حتى الغد؛ الدوام لله وحده. تناول ورقةً بيضاء مزقها إلى قطع، وراح يوزع فيها أسماءَ المدارس التي لا تزال بالإمكان، ثم طواها واحدةً تلو الأخرى، ونثرها على الطاولة، ونادى صغيره الذي استيقظ للتو. جاء الولد يفرك عينيه؛ فطلب مِنه أبوه أن يتركهما مُغلقتين، وأن يلتقط بعشوائية وبغير تفكير ورقةً واحدة.. ورقة مستقبله العريض. نهار عشوائيّ مجيد.