غرفة الجوارب - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غرفة الجوارب

نشر فى : السبت 7 أكتوبر 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 7 أكتوبر 2017 - 9:45 م

لا يعرف لماذا هذه المرة وافقت على اللقاء. منذ أن وقعت الحادثة واكتشفت إصراره على الخيانة، قطعت علاقتها به قبل أكثر من عشرين سنة ولم ترد على رسالة واحدة منه. فقط، فى الأيام الأولى التى تلت الحادثة وبعد أن حاول الاتصال بها، أبلغته عن طريق أختها «عائشة» أنها لا تريد أن تراه وأنها ستمحى اسمه من ذاكرتها.
شرد قليلا مستدعيا بعض تفاصيل الحادثة، والليلة التى سبقتها. حاول سحب نفسه بعيدا عن الغرق فى متاهة ذكريات أراد دوما تناسيها. أخفق على غير العادة. هو الذى أتلف العديد من شرائط الذكريات، وأحرق بقايا أسماء عاش معها وأماكن كانت له ومشاعر تخوف من أن تستبد به، أخفق.
هل هو الخوف من اللقاء بعد كل هذه السنوات؟ أم هو البحث قبل اللقاء عن ردود على اتهامات قد تأتى، وإجابات على تساؤلات ربما أفصحت عنها العينان العسليتان وإن لم ينطق بها اللسان؟
لا يدرى. سعى إلى اللقاء ليعتذر، ويطلب الصفح ناظرا فى الوجه الذى أحببه ولم يصنه. وها هى توافق أخيرا. فلماذا لا يكف عن قمع ذكرياته معها، ويتواضع إزاء حلوها ومرها؟ لم لا يدعها تأتى إلى مقدمة رأسه حتى يراها؟ ألا تركها لتطغى على حواسه ليشم رائحة الحب مجددا، ويشاهد الألم الذى أفاض من عيونها نهرا من الدموع أغرق كل ركن فى شقتها التى كانت جنته، ويسمع الصوت الذى كانت نعومته محرابا للتعبد فى المرأة، بداية الحياة ومنتهاها؟
أقنع نفسه طوال السنوات الماضية أن الزمن قد داوى جروحها، وأن علاقات الحب التى حتما دخلت بها بعد خيانته أزالت آلامها، وأن حياتها بالتأكيد لم تتوقف عند ذلك الخريف العاصف فى ١٩٩٥. ولم لا، ألم يحدث هذا معه؟ سرعان ما عاد للاقتراب من النساء، وأحبب عشرات المرات، وتزوج ورزق بأطفال هم نور دنياه.
اللعنة على الذكورية التى مازالت تعشش برأسى، قالها لنفسه بصوت من يعترف بأنه خسر صراعا طويلا مع مرض عضال. الرجل الذى يردد فى حديث مع الذات أنه أحب عشرات المرات، هو رجل لم يحب فى الحقيقة ولا مرة واحدة. والخائن الذى يربط بين تذكر خيانته لإنسانة أحبها وبين تذكر سرعة اقترابه من أخريات ظهرت فى حياته بعدها، مثله لم يتعامل مع الخيانة يوما واحدا بصدق. وحديث الزواج والأطفال هو حديث لا روح به لرجل يحتمى بعلاقة قائمة اليوم، لكى يتعامى عن الآلام التى فرضها بالأمس على من أحبته وتمنت قبل الخيانة أن يعيشا معا.
أضاءت شاشة هاتفه لتوقف سيل لعنات الذات، وتسحبه إلى خارج متاهة الذكريات. «يحيى، لا تخف! اللقاء معها ربما أعاد لك شيئا مما أضعته قبل أكثر من عشرين سنة. هى أيضا تريد أن تراك، وإلا لكانت امتنعت عن الرد على رسائلك كعادتها. أذهب فى الموعد، ولا تخف. أحبك.» حين تحب، تنثر المرأة عطرا للجمال والسكينة والبهجة الهادئة يعم الكون كله ويهدئ من روع الرجال المذعورين منذ أزمنة كهوف الوجود الأولى والمعذبين بخطايا البدايات والنهايات. شجعه حبها على أن يفتح بعض خزائن أسراره، حكى لها. لم يعجبها كل ما قال، لم تفهم لماذا خان من أحب. إلا أنها استبدلت الصمت بالإدانة تارة، وتارة استدعت الاختلاف بين حب المرأة حين يكتمل وحب الرجل عندما تتخطفه الشهوات حتى تواصل النظر فى عينيه بعطف. راعها الذعر المقيم إلى اليوم بين ضلوعه بسبب الحادثة، وشعرت بحاجته لأن يتطهر من الخيانة بالتعبير الصادق عن الحزن والندم ليس فى وجهها هى، بل فى وجه من خانها. شجعته أن يكتب لها، أقنعته أن يخبرها برغبته الحقيقية فى لقائها بعد كل هذه السنوات وباستعداده للقدوم إلى مدينتها فى الوقت الذى تحدده هى. حملته على أن يتذكر اسم السيمفونية الكلاسيكية التى كان استماعهما إليها هو طقس بداية أيامهما المشتركة ونهايتها، السيمفونية الخيالية للفرنسى لويس هيكتور بيرليوز، وأن يرسل إليها على البريد الإلكترونى تسجيلا بديعا لها يؤديه أوركسترا شيكاغو السيمفونى. لم تتوقف عن مده بالأفكار والمقترحات إلا حين جاءته الموافقة على اللقاء.
لا، ليس وراء كل حديث عن الزواج والأطفال رغبة مريضة فى الاحتماء الذكورى بما لدى الرجل اليوم لكى يتناسى ماضيه. بل قد يكون دافعه رغبة مشروعة للنبش فى الماضى بذعر أقل وللتطهر من بعض الخطايا بعذاب أخف وطأة، وحب تمنحه امرأة هو أفضل ما يمكن أن يحصل عليه رجل مذعور ومعذب.
غادر يحيى مهران غرفته، غرفة الجوارب، فى فندق «بيت الفنانين» الكائن فى وسط تلك المدينة الأوروبية غريبة الأطوار. قرأ عن «بيت الفنانين» قبل أن تبدأ رحلته، شاهد صورا لغرفة ذات الأسماء الرنانة وللديكورات الجميلة التى صممها نفر من فنانات وفنانى أوروبا الشرقية والغربية، واجتذبته الأسعار غير المبالغ بها لحجز غرفة لمدة ثلاثة أيام. حاول حجز غرفة «مارلين مونرو» التى يتوسطها تمثال جيرى لرأس الفاتنة الراحلة، فلم تكن متاحة. فاضل بين غرفة «الجوارب» وغرفة «الطائر الحديدى»، وشعر بارتياح لتواضع الجوارب ودنوها من الأرض بعيدا عن ادعاءات التحليق. أتم الحجز، ولم يكن قد مضى على وجوده فى الغرفة أكثر من ساعتين قبل أن يغادرها للحاق بالموعد.
كان موعده معها على مقهى من مقاهى الحى الذى شهد على تفاصيل الحب والخيانة والحادثة والانهيار. هى التى اختارت المكان، ذاكرة فى رسالتها الأخيرة أن المقهى قريب من الشقة التى تسكنها وأنها تفضل عدم الابتعاد عن حيها فى ليالى الشتاء قارسة البرودة.
وصل قبل الموعد، ووجدها جالسة وبين يديها كتاب تطالعه. أدرك على الفور أن لحظة اللقاء كما تصورها ماتت قبل أن تولد. أراد أن يأتى إلى المقهى قبلها، أن يتعرف على جنبات المكان، أن يختار الطاولة التى ستجلس إليها معه وأن يجلس هو على جانبها المواجه لمدخل المقهى، أن ينظر هو إليها وهى تخطو نحوه. وجدها جالسة، هو الذى يخطو نحوها. تتفحصه على الأرجح، ربما تنقب عن علامات الزمن الذى مر. شاهد ذلك فى العينين العسليتين حين تلاقت نظراتها مع نظراته، وجلس فى مواجهتها بعد أن حياها وشكرها على الاستجابة لطلب اللقاء. مرت دقائق قليلة ثقيلة، لم يتمكن خلالها من الحديث فيما جاء من أجله، فقط أطال النظر فى وجهها. الملامح الإغريقية لم تتبدل، العظام البارزة للوجنتين والجبهة الصغيرة والشفاه المكتنزة قليلا. لم يذهب بريق عينيها، واحتفظ شعرها بتموجاته الهادئة، واحتفظت هى بلونه البنى المائل إلى الحمرة.
ثم سألت باقتضاب عن أحوال عمله، فأجابها ورد السؤال. أخبرته بمحل عملها، صحيفة يومية معروفة هى مصورة قسمها الفنى والثقافى. سألها عن هواية التمثيل، وإذا كانت مازالت تشارك فى بعض العروض المسرحية. قالت «لم أتوقف أبدا عن التمثيل، وأنا الآن من بين أعضاء فرقة مسرحية تقدم عروضها على خشبة المسرح الغربى. هل تتذكره؟» تحشرج صوته قليلا ثم خرج مترددا، «نعم، أتذكره جيدا. ذهبت بنا إليه لمشاهدة مسرحية لمكسيم جوركى»، نظر بعيدا، شعر ببريق عينيها يحرق وجهه. «وهل تتذكر أيضا اسم المسرحية؟ الحضيض، مسرحية الحضيض لجوركى»، صمت، وصمتت.
هم بسؤالها عن حال أختها ووالدتها، متمنيا أن يكون ذلك مدخله للسؤال عن حياتها الشخصية. قبل أن توافق على اللقاء، كتب لها عن زوجته وأطفاله، أراد أن ينقل لها صورة الرجل المستقر عاطفيا وعصبيا، أراد لها أن تطمئن إلى كونه لا يبحث سوى عن اعتذار فى الوجه تأخر لأكثر من عشرين سنة. هى لم تبح بشىء عن حياتها الشخصية. وكأنها تدرك جيدا دوافعه، حرمته قبل اللقاء من الارتكان إلى أريحية ذكورية «حياتها لم تتوقف عند خيانتى، وعلاقاتها من بعدى حتما أزالت آلامها ومنحتها السعادة التى تستحقها» ولم تبح له بشىء.
بان عليها الضيق. بصوت مستثار وإن ظل خفيضا قالت «أختى ووالدتى بخير، وأنت لم تطلب اللقاء وأنا لم أوافق عليه لكى نضيع الوقت فى كلمات محدودة المعنى عن أهلى وأهلك. يحيى، اسمعنى جيدا. أدرك ما الذى جاء بك، حسبتك واضحة. تريد أن تسجل كلمات الاعتذار عن خيانتك وأنا جالسة أمامك، تريد أن أقول لك صفحت عنك، تريد طى صفحة من صفحات ماضيك، تريد أن تصدر صفحتى بعنوان عريض هو «سامحتنى»، تريد أن تزين المتن ببعض العناوين الفرعية مثل «لم تتوقف حياتها عند خيانتى»، و«أحبت من بعدى وعوضها الحب عن الألم الذى سببته لها»، و«التقيتها بعد أكثر من عشرين سنة وهى كما هى لم تتغير أو تتبدل، ذات الوجه الصبوح ونفس الصوت الملائكى»، و«عاتبتنى عتابا مريرا، ثم تعانقنا وتوافقنا على صداقة أبدية» وغيرها. أليس كذلك؟ أليس هذا هو ما حملته له ذكوريتك المريضة فى طريقك إلى هنا، ذكوريتك التى مكنتك فى الماضى من الخيانة ومازالت تحول بينك وبين النظر إلى ما حدث من مكان غير مكانك أنت؟
«دعنى، أذن، أوفر عليك عناء المقدمات الباهتة والكلمات محدودة المعنى. لم ولن أسامحك، وحياتى بعد خيانتك والحادثة اللعينة لم تعد أبدا كما كانت قبلهما، ومشاعر الحب التى غمرتنى خلال السنوات الماضية لم تعوضنى عما فعلته بى الخيانة لأن صراعى مع بقايا الألم والحزن والخوف وخيالات الحادثة اللعينة لم يهدأ يوما، والحقيقة الوحيدة هى إننى تغيرت منذ ذلك الخريف فى ١٩٩٥، تغيرت كثيرا. كنت أنت من أدخل الخيانة إلى حياتى، فعل الخيانة ارتبط بك، أنت مصدره ومسببه. فكيف هيئ لك أنك ستخرج من اللقاء معى مسلحا بعنوان «سامحتنى» لكى تطوى صفحتى؟ هل تحصلت على صكوك سماح سابقة وطويت بها صفحات سابقة؟
«أدرك أن مأساة الخيانة تتكرر فى حياتنا جميعا، وربما كنت أنت فى مواضع أخرى من حياتك الضحية وليس المذنب. لا يستثنيك عقلى، وأنا أنظر إليك الآن، من تقلبات الدنيا وتبدل مواقعنا بها. إلا أنك فى حياتى أنا تظل أبدا محتجزا فى خانة الخائن، أنت من أديت هذا الدور، ولن أدعك تغادره. فرواية حياتى تحتاج لك، أنت من صنعت منى ضحية، وخلاصى من ضعف الضحايا وعجزهم لا تقم له قائمة دون إدانتك الدائمة. ساقتك الأقدار لتدخل الخيانة إلى حياتى، صرت يهوذا روايتى الذى لا تشفع له ظروف أو يسعفه اعتراف بالضعف البشرى ورغبة فى التكفير عن الخطيئة، مثلك لا يسامح ولا يصفح عنه.
«صدقنى حين أقول لك أنك كإنسان لا تعنينى كرها أو حبا، تلاشت هذه المشاعر بعد الخيانة بفترة قصيرة مثلما ضاعت الكثير من التفاصيل. ليس لى فيك غير دور الخائن الأبدى، دون ذنبك لا تكتمل رواية حياتى. يحيى، لا أملك صكا للسماح أستطيع أن أقدمه لك قبل أن ينتهى اللقاء. ربما استطعت أنت أن تترك هنا وعلى هذه الطاولة بعضا من خيالات الرجال المريضة عن خطاياهم التى يمكن أن يتبعها الندم والاعتذار ومن بعدهما السماح والغفران والتطهر، فالعبث بحياة الآخرين ليس خطأ مهنيا والنساء لسنا آلهة الغفران».
تعطلت حواسه كلها دفعة واحدة، لم ينطق بكلمة، ودعته وغادرت المقهى مسرعة. ظل جالسا، لم يعلم كم مر من الدقائق قبل أن تستعيده شاشة هاتفه، رسالة اطمئنان من زوجته. «ما ضاع لا يعود.. لست مذعورا.. ربما نجحت فى الحفاظ عليك.. ليلة سعيدة!» كتب سريعا، ثم نهض عائدا إلى غرفة الجوارب.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات