في أيامٍ تمتَّع مُعاصروها ببراحٍ الصدر وخلوّ البال، وبقليلٍ من المُنغّصات وكثيرٍ من الأريحيةِ ومساحاتِ التَّواد؛ كانت المُقدمةُ الدراميةُ التي يسعى مِن خلالِها رجلٌ للتعرُّف إلى امرأةٍ في طَبقةٍ عليا وربما في الشرائحِ المُوسرةِ من الطبقةِ المتوسطة، تبدأ بعبارةٍ مَحفوظَة: "تسمحي لي بالرقصة دي؟". بقيةُ القصّةِ مَعروفةٌ والسيناريوهات مُتوقعةٌ، لكنها لا تمُتُّ بأدنى صِلةٍ لوسائلِ التعارُف التي يتبعها العائشون في هذا الزمان؛ فمِنهم مَن يعتقلُ امرأةً تعجِبه لأشهرٍ وربما سنوات، ومَن يمنعها مِن الكلام، ومَن يُلقي بها من الشُرفةِ أو يذبحها إذا عزَفَت عن الرَّقصة.
•••
الرقصةُ هي المَرَّةُ الواحدةُ مِن الفَعلِ رَقَص أيّ هزَّ جسدَه بإيقاعٍ ما. الراقصُ هو الفاعلُ والراقصةُ كذلك؛ لكن العادةَ جَرَت أن تُستَخدَم صيغةُ المُبالغةِ مع النساءِ، فالمهنةُ قد طبَعت الكلمةَ والرقَّاصةُ جاذبةٌ للأعيُن، حاضرةٌ ما زاد الطلبُ على ترفيهٍ واستمتاع.
•••
يُكنى بندول الساعةِ بالرقَّاص إذ هو كثير الأرجحة، رغم أنه يؤدي حركَةً واحدةً لا يعرف غيرَها. يتحرَّك من يمينٍ إلى يسارٍ في رتابة، ومع كلّ حركةٍ يُسجلُ انقضاءَ وقتٍ مِن المُهلةِ المَمنوحة. لم تعد ساعاتُ الحائطِ الحديثةِ مُعتمدة على رقَّاصِها؛ وإن وُجِدَ فإنما للزينةِ والتذكِرة بحقبةٍ ولَّت، أما الساعاتُ القديمة التي لم يزلْ أصحابُها مُتشبّثين بحضورِها في حيواتهم، فلها ندرةٌ من فنيين مَهرةٍ يعلَمون يقينًا كيف تدور، ويتقنون طرقَ صونِها وإصلاحها.
•••
بعضُ الطقوسِ الاحتفاليةِ ذات الأصولِ التاريخيةِ القديمةِ تعتمِد رقصاتٍ ذات شروطٍ خاصة، مِن بينها عيد ديني يسمى انستيناريا، يحتفل به مواطنو بعض القرى اليونانية في شهر مايو مِن كلّ عام؛ تكريمًا لذكرى القديسين قسطنطين وسانت هيلين. طقسٌ أساسيٌّ من طقوسِ الاحتفال أن يُغني المُشاركون، وأن يرقصوا فوقَ الجَّمر طلبًا للبَرَكَةِ والحمايةِ وربما الشفاءِ من العِللِ والخُطوب.
•••
تحوز عناوينُ الأفلامِ والمسرحيات نصيبًا كبيرًا من الرَّقصِ ومُشتقاته. هناك فيلمان مأخوذان من قصتين لإحسان عبد القدوس، كلاهما أدَّت فيه الفنانةُ نبيلة عبيد دورَ البطولة، أحدهما هو الراقصةُ والسياسيّ؛ لسمير سيف، وثانيهما الراقصةُ والطبَّال؛ لأشرف فهمي. الأولُ مُقاربةٌ مُمتِعةٌ بين نوعين مِن الرَّقصِ على مستويَيّ الواقع والمجاز، والثاني مُفارقةٌ مُرعبةٌ بين تقييم مُتعال للذات يقابله تجاهل وتهميش من الآخرين. هناك أيضًا مسرحيةُ راقصة قطاع عام؛ للقديرين يحيى الفخرانيّ وجلال الشرقاوي، وفيها من التلميح والتصريح الكثير؛ إذ تدور حوْلَ كازينو حكوميّ يتعرضُ للفشلِ ويُضطَرُّ الموظفون لإنقاذه عبر الاستعانةِ براقِصةٍ هي الفنانة سماح أنور التي أدت دورًا ناجحًا ومفاجئًا في آن واحد. تُذكَر على الجانب الآخر مسرحيةُ رقصةِ سالومي الأخيرة التي كتبها محمد سلماوي وأخرجها هناء عبد الفتاح، والقصَّةُ التي اختلط فيها البعدُ التاريخيّ بالأسطوريّ، قد سجَّلتها كذلك لوحاتٌ زيتيةٌ مَعروضةٌ في أعرَقِ المتاحفِ العالمية.
•••
إن جاءَ حديثُ الدراما فلا أروعَ ولا أرقَّ وأعمقَ مِن رقصَةِ التانجو بفيلم عطر امرأة، والذي جسَّدَ فيه العبقري آل باتشينو قائدًا عسكريًا فَقَدَ بصرَه نتيجةً لانفجارٍ كان هو ضالعًا فيه عن غير قَصد. يُوصَف التانجو بأنه رقصةُ الحياةِ ذاتها؛ فيه شغفها وصرامتها وفيه أيضًا عفويتها وإيقاعها البهيج؛ وهي صفاتٌ دامت على مدار الفيلم. ظَهَر عطر امرأة في أوائلِ التسعينيات، وحصل عنه آل باتشينو على أوسكار أفضل مُمَثل، وفي ذكر الجوائز والتسعينيات هناك أيضًا فيلم الرقص مع الذئاب لكيفين كوستنر؛ وهو من أجمل الأفلام الأمريكية التي قدمت علاقات إنسانية تجاوزت التصنيفات العنصرية وأنصفت السكان الأصليين.
•••
لا يمكن نسيانُ العبارةِ الشهيرةِ التي أطلقَها سرحان عبد البصير؛ أو الفنان عادل إمام في مسرحيةِ شاهد ما شافش حاجة، فأصبحت علامةً ثابتةً ضمن مَوروثِنا الكلاميّ: رقَّاصة وبترقص. الحال أن الكلمتين مُتلازمتان، تُدَلّل إحداهُما على الأخرى وقد تُغني عنها، وإذا كانتا في ترادفٍ مع بعض المأثوراتِ التي تقدّم الحِكمةَ؛ فأقربها تلك الأبيات الشِعريَّة التي تقول: المُر مُرٌّ والحلاوةُ حلوةٌ وجُهنم قيل إنها حمراءُ .. كلُّ الرجال على العموم مُذكرٌّ أما النساء فكلهن نساء، ويُمكِن اختصارُ هذا اللغوَ كلَّه في قولٍ واحد: عرَّف الماءَ بعد الجهدِ بالماء.
•••
ارتبط الرَّقصُ أغلبَ الأحيانِ بالفرح، رَقصةٌ في حَفلِ زواج، رَقصةٌ في عيدِ ميلاد، أو رَقصةٌ عند النجاح؛ لكن هذه المناسبات السعيدة ليست مِن الشُّروطِ الواجِب توافرها ما حَضَر الجَّسدٌ مُتمايلًا مُنسابًا، وقديمًا أنشد الشاعر: ولا تحسبنَّ رقصي بينكم طربًا ... فالطير يرقصُ مذبوحًا من الألم. يبدو أن الرَّقصَ فعلٌ حَدّيّ لا يحتملُ حيادًا ولا شعورًا وسطًا فاترًا؛ فإما سعادة غامِرة أو انفعالات حماسيَّة مُزَلزِلَة أو تعاسة جمَّة.
•••
الراقصُ الأولُ أو الراقصة الأولى في فرقة بالية أو فنون شعبية هو هذا الشخص الذي يمتاز عن أقرانه بالرشاقة والدقة وسلاسة الأداء وقوة تعبيره. في السياسة أيضًا ثمَّة راقصٌ أول ومُساعدون، يصنعون حوله لوحة حركية جميلة ويسهمون في ظهوره، يحتضن المسرحُ الجميعَ؛ لكن الأعينَ تبقى مُعلقة به وبكل خطوةٍ يؤديها وكل قفزة يثبها؛ فإن سقط، فسد المشهدُ وتحوَّل إلى مَلهاة تستدرُّ السخريةَ وتستجلب الدموع؛ لا يُهمِّ حينها ما أبدع الآخرون.