(1 ) ولدت بعد الحرب بأربع سنوات فقط. وتفتح وعيى على مناخ الاحتفالات المنتشية بالنصر طيلة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى. لكن وعيى بها (أى فى سياق التاريخ المصرى المعاصر) تجاوز مداه العاطفى (المرتبط بالدراما والأفلام والأغانى الوطنية، والكرنفالات الرسمية والفنية كل عام) إلى مداه المعرفى؛ بالبحث والسؤال والقراءة، بمحاولة الفهم والتقييم والنظر العميق للظروف والملابسات التى أحاطت بهذه الحرب، فى الأسباب والنتائج، فى إدارة المعارك وسير المفاوضات ثم النتائج النهائية التى تمخضت عنها على مستويات عدة.
لم أكف يوما لا عن قراءة مصادر الحرب المتاحة (فى روايتها الإسرائيلية المتاحة قبل المصرية، ودائما الفضل ما شهدت به الأعداء أولا) ولا القراءة عنها فى كل ما وقع تحت يدى من كتب ومذكرات قادة الحرب والمشاركين فيها، ولا ما كتب حولها من تحليلات سياسية واقتصادية وتاريخية وثقافية.. إلخ.
(2 ) وأعتبر نفسى، وربما يتفق معى عدد ليس بالقليل من أبناء جيلى، من مواليد النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، والنصف الأول من الثمانينيات، ممن عاصروا هذه البطولة بالوعى والإدراك والمعرفة والقراءة؛ أن وعينا المبكر قد تأثر كثيرا بحرب أكتوبر، وأصبح الاحتفال السنوى بعيد النصر (أو انتصارات أكتوبر كما تفضل الرواية الرسمية) يشكل رافدا مهما فى تكوينى الخاص وثقافتى وذائقتى الشخصية؛ بل فى مكتبتى الصغيرة آنذاك التى احتوت على أربعة أو خمسة كتب لا أنساها عن حرب أكتوبر أو تشتمل على فصول تتصل بجانب أو أكثر منها؛ وظللت على هذه الحال إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضى.
حتى ذلك الوقت لم أكن اكتشفت ــ بعد ــ كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل؛ ذلك الرجل الذى مهما اختلفت معه أو عارضته فإنك لا تملك الاختلاف حول قيمته، وقيمة تحليلاته وعظم الأدوار التى مارسها؛ صحفيا ومسئولا ومقربا من دوائر صنع القرار على أعلى مستوى فى البلد.
كل ذلك فضلا على ما لعبته الأقدار وجعلته شاهد عيان ومشاركا فى الأحداث الجسام التى شهدتها مصر خلال الفترة من 1957 (التى تولى فيها رئاسة تحرير الأهرام) وحتى فبراير 1974 تاريخ خروجه منه.
(3 ) اكتشفت طبعات (مركز الأهرام للنشر والتوزيع) من كتب الأستاذ هيكل، وبخاصة رباعيته الضخمة (حرب الثلاثين سنة)، قبل أن تصدر كاملة مع كتبه الأخرى عن دار الشروق، فأقبلت عليها ألتهمها التهاما، وتوقفت عند الجزء الرابع منها وهو المعنون «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» الذى يؤرخ فيه لوقائع حرب أكتوبر وتفاصيلها وأسبابها ومقدماتها ونتائجها وأسلوب إدارتها.. إلخ.
وأكذب لو قلت إننى قد استوعبت كل ما أورده هيكل فى كتابه المرجعى الضخم (يقع فيما يقرب من تسعمائة صفحة من القطع المتوسط، ومتخم بالوثائق وصور المستندات السرية)، من معلومات وتحليلات واستنتاجات ومقارنات!
اقتضى الأمر عدة سنوات أخرى من القراءة، ومعاودة القراءة، والتركيز أثناء القراءة، لفهم واستيعاب الحقائق أولا، ولإدراك السياق الكلى والشامل على مسرح الشرق الأوسط سياسيا واقتصاديا فى اللحظة التى اندلعت فيها الحرب، وثالثا بحث النتائج بعد تحليل العلاقة بين إدارة الحرب على المستوى العسكرى، وإدارتها على المستوى السياسى. ولم يكن ذلك هينا أو بسيطا، وكان يستحق تماما تلك السنوات التى أنفقتها فى القراءة والفهم والإدراك.
(4 ) لاحقا عرفت أن كتابا آخر لهيكل قد سبق هذا الكتاب بعنوان «فى مفترق الطرق حرب أكتوبر 1973.. ماذا حصل فيها؟ وماذا حصل بعدها؟» وهو كتاب مهم للغاية، ولم ينل الشهرة التى يستحقها مثل كتابه «أكتوبر 73: السلاح والسياسة». ولا أعلم على وجه الدقة إن كان هذا الكتاب هو ذاته المعروف بـ «الطريق إلى رمضان» وصدر فى نسختين بعنوانين مختلفين، أم أنهما كتابان مختلفان فى الموضوع والمنهج والمادة التى تضمنها كل منهما؟
كان الأول هو الذى تحصلت عليه عقب صدوره فى الشروق، أما الثانى فلم أعثر عليه أبدا ولم أتمكن من قراءته.
يمكن القول إن كتاب «عند مفترق الطرق» هو الجزء الأول أو التمهيد الضرورى واللازم لكتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة».
الكتاب الأول احتوى على تحليل ما يدور على الأرض من معارك، وقراءة المناورات واستراتيجيات الكر والفر، وفيه أيضا سمة التسجيل الآنى للأحداث بسخونتها والانغماس فى التفاصيل والجزئيات والبحث عن المعلومات.. إلخ. أما الكتاب الثانى فهو كتاب «التأريخ» بعد أن انتهت الحرب وانقشع الغبار وتجلت النتائج إن سلبا وإن إيجابا على مصر وإسرائيل والشرق الأوسط والعالم كله!
(5 ) قراءة كتب هيكل ــ أو بالدقة كتابيه عن حرب أكتوبر ــ تجعلك تقف كثيرا وطويلا أمام ذلك الحدث، اسمع معى ما يقوله فى كتابه «عند مفترق الطرق»: «وسمعت من الفريق سعد الشاذلى القصة الكاملة للقلب والعقل المصرى، واقفا وجها لوجه أمام مشكلة العبور من الدقيقة الأولى فى المسئولية إلى الساعات التى أصبح فيها العبور ملحمة بطولية من أمجد ما شهد تاريخ مصر وتاريخ العرب.. مشيت على الجسر من الغرب إلى الشرق فوق القناة..
ورحت أنقل البصر من الجسر إلى مياه القناة تتدفق فى هدوء ما بعد العاصفة، إلى الساتر الترابى الضخم الذى حوله العدو إلى سد دفاعى، إلى المواقع الحصينة الرابضة عليه من بقايا خط بارليف، إلى الثغرات فى هذا السد فتحتها قواتنا المسلحة مدخلا إلى الأرض المقدسة.
وأحسست أن مشيتى على الجسر فى هذا الجو خشوع للحب والبطولة... صلاة للحب والبطولة!» («فى مفترق الطرق»؛ محمد حسنين هيكل فى حديثه عن الفريق سعد الشاذلى) وللحديث بقية...