يشكو أصدقاء ومعارف كثيرون عدم النوم، منهم من يجد صعوبة فى بداياته فيمكث وقتا ممتدا فى انتظار نعاس لا يجىء، ومنهم مَن لا يتمكن من مواصلة نومه لساعات كافية اعتاد عليها منذ الصغر، ويثيره تكرار صحيانه دون سبب واضح. ذكر لى صديق أنه ينام بسهولة يحسده عليها الآخرون، ويستمر نائما لساعات طويلة أيضا، لكنه ما إن يصحو حتى يشعر بحاجته للنوم مرة أخرى، وكأنه لم ينم أبدا.
•••
يقال إن النوم يصادق أصحاب البال الهادئ، ويجافى القلقين الواقعين تحت ضغوط لا أول لها ولا آخر، مع ذلك أعرف من الناس من يحمل جبالا من المشكلات والهموم، لكنه ما إن يغمض جفنيه حتى يستغرق فورا فى النوم دون أن يبذل جهدا، ودون أن يمر بمقدمات التثاؤب والاسترخاء وعدم التركيز. أعرف من يستأنف التفكير خلال نومه ويستيقظ وقد وجد حلا لمشكلة مستعصية، ومن يغفو ويصحو دون أن يدخل مرحلة النوم العميق. أعرف أيضا من لا يوقظه انفجار قنبلة، ومن يصحو مع دبيب نملة صغيرة تتسلق حائطا بجانب فراشه.
•••
صادفت فى أحد الأيام شخصا كان قادرا على النوم فى وضع الوقوف. حكى لى كيف كان يقضى فترات مناوبته فى الجيش واقفا بزيه الرسمى، حاملا سلاحه فى وضع الانتباه، وغارقا فى نوم عميق؛ لا يوقظه إحساس بالقلق من انكشاف أمره، ولا يهزه خوف من عقاب، ولا تخذله عضلاته فترتخى ــ كما يَدَّعِى العِلمُ على النائمين ــ وتُسقِطُه أرضا.
•••
الشكوى من عدم النوم علة مؤرقة فى حد ذاتها، يبدو الأمر بسيطا وربما تافها بالقياس إلى عللٍ أخرى لا تعد ولا تحصى، لكنه يورث أصحابه مزاجا متقلبا نَكِدا، وذهنا غير صافٍ، وفوق هذا وذاك ميلا متصاعدا للعراك والعدوان. أذكر بائعا متوسط العمر كان يقف فى محل أدوات كهربائية وأمامه صف من الزبائن، يرغب فى الابتسام بين الحين والحين لكنه يتراجع، ثم يعلو صوته ما بين الصياح والمزاح فيربك الواقفين. حين انفض الجمع أغلبه، راح البائع يشكو أرقا عنيفا أكدته عيناه الحمراوتان، دون أن يعبأ بالمستمعين.
•••
انتشر استعمال الأقراص المهدئة فى الآونة الأخيرة بشكل كبير، لا أقابل شخصا إلا وتشعب الحديث هنا وهناك، وتطرق بطبيعة الحال إلى الضيق والإحباط اللذين يحومان فى الأجواء، ويتقلص بسببهما النوم إلى ساعات شحيحة لا تسمن ولا تغنى من جوع. لا أقابل شخصا إلا وجاء على ذكر نوع أو أكثر من تلك الأقراص، يستعملها تلقائيا لتجاوز عثرات النوم والأرق المزعج.
•••
كان الحرج ينتاب بعض الناس فيما مضى حين يضطرون للإفصاح عن دواء مهدئ وصفه الطبيب. الآن اختفى الحرج تماما وصار الناس يصفون الأقراص لبعضهم البعض؛ رجالا ونساء، ويتبادلون النصائح والخبرات حول النوع الأفضل تأثيرا والأقل ضررا، الأعلى ثمنا والأرخص، والفروق الشاسعة بين محليّ الصُنع والمستورد، وكلما ازداد الأمر مشاعا كلما تضاعفت درجة قبوله واستيعابه، وزالت عنه أسوار الخجل، وأقبل آخرون على تجربته آملين فى نوم عميق عز الحصول عليه.
•••
قرأت مؤخرا عن دراسة بريطانية أثبتت نتائجها أن ما يزيد على نصف الطيارين البريطانيين ينامون أثناء قيادتهم الطائرات، وأن ثلث هؤلاء يستيقظون من نومهم ليجدوا مساعديهم أيضا نائمين بينما الطائرة تسبح آمنة فى الهواء بفضل التكنولوجيا الحديثة. قيل إن الإرهاق الشديد وعدد ساعات السفر الطويلة عواملٌ تتسبب دون شك فى نوم الطيارين، وأظن أن عوامل مثل الهدوء والتكرار والرتابة لها أيضا أثر، فالطيار الجالس وراء المقود لا يستقبل من المؤثرات ما يعمل على إبقائه منتبها متيقظا طيلة رحلته.
•••
أظن أننا جميعا نفتقد الكثير من العوامل الباعثة على النوم؛ فى ظل أحداث ساخنة تتساقط فوق رءوسنا، وتفاصيل لاهثة نعدو للحاق بها، ومؤثرات صوتية وضوئية تقتحم البيوت وتستقر فى الأعين والآذان والأمخاخ فتبقيها متحفزة أبدا. ربما تحدث العقاقير أثرا وقتيا وربما تعالج العرض لكن أمراضنا تبقى كما هى