تفتيت أوروبا - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تفتيت أوروبا

نشر فى : الجمعة 7 ديسمبر 2018 - 10:35 م | آخر تحديث : الجمعة 7 ديسمبر 2018 - 10:35 م

فى بداية الألفية الجديدة ووفقا للعديد من استطلاعات الرأى آنذاك، كانت شعوب الاتحاد الأوروبى ترى فى اندماجها الاقتصادى والمالى والاجتماعى والسياسى الوسيلة الفضلى للحفاظ على الأمن والرخاء فى القارة العجوز. مزايا العملة الموحدة، دور البنك الأوروبى الموحد، تحديات التوسع المطرد فى عضوية الاتحاد، النقاشات حول الدستور الأوروبى وتطوير الفعل السياسى والعسكرى للاتحاد وصعوده المرتقب بوصفه قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية والصين؛ كانت تلك هى القضايا المطروحة على الأوروبيين فى السنوات الممتدة بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٨ وبشأنها تمايزت مواقف الحكومات بين تأييد تسريع الاندماج القارى على جميع المستويات وبين المطالبة بمواصلة الاندماج الاقتصادى والمالى وتأجيل تطلعات الحكومة الأوروبية الموحدة والجيش الأوروبى المشترك. بالقطع، حضرت أقليات شككت فى الاتحاد الأوروبى وتواجدت أحزاب وحركات سياسية قومية ورفض مقترح الدستور الأوروبى فى استفتاءات شعبية. إلا أن أغلبيات مستقرة بين شعوب القارة وأحزاب يمين ويسار الوسط التى تناوبت على الحكم فى بلدانها بدت متمسكة بالاتحاد وغير مستعدة للتراجع عن وعدى الأمن والرخاء اللذين ضمنهما منذ خمسينيات القرن العشرين (كسوق مشتركة ثم كاتحاد).
أما اليوم، وفى خواتيم العقد الثانى من الألفية الجديدة، فيبدو أمر الأوروبيين وكأن أحوالهم انقلبت رأسا على عقب. صارت الأغلبيات تتململ من تواصل الاندماج القارى، وصوت الناخبون البريطانيون لصالح التخارج من الاتحاد (بالكاد وبعد تزييف ممنهج لوعى الناخبين نعم، ولكن الأغلبية أيدت مغادرة الاتحاد الأوروبى)، ويستمر فى عموم أوروبا صعود أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية التى ترى فى الاتحاد ومسئوليه وبيروقراطيته الجالسة فى بروكسل (العاصمة البلجيكية) قوى معادية تفرض عليهم اختيارات اقتصادية ومالية واجتماعية غير مقبولة، ولم تعد حرية حركة المواطنين وإسقاط الحدود الفاصلة بين بلدان الاتحاد وحرية تنقل العمالة بين اليونان وبريطانيا مسلمات لا تمسها الحكومات الأوروبية. فما الذى حدث؟
***
بين ٢٠٠٨ و٢٠١٨، تعاقبت على الأوروبيين صنوف من الأزمات أسفرت عن انهيار ثقة الأغلبيات فى وعدى الاتحاد الأساسيين، الأمن والرخاء. وتواكبت الأزمات هذه، وأتناولها فى الفقرات التالية، مع اكتفاء أحزاب يمين ويسار الوسط الحاكمة بمجرد التشديد على غياب البدائل للاندماج القارى وعجزها عن تطوير خطاباتها الانتخابية وسياساتها العامة بشأن أوروبا على نحو يجدد الثقة الشعبية فى مزايا الاندماج. فى المقابل، استطاعت أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية أن تتغلغل فى الفراغ الناشئ بين انهيار ثقة الأغلبيات وتجاهل الحكومات لكى تصنع من التشكيك فى الاتحاد الأوروبى واقعا سياسيا ضاغطا لم يتوقعه أحد. لم ينتظر أكثر الأوروبيين تشاؤما خروج بريطانيا من الاتحاد مثلما لم يتحسبوا لا لشيوع العداء الشعبى لقرارات بيروقراطية بروكسل الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية ولا لبلوغ اليمين المتطرف والقوميين لمقاعد الحكم فى روما ووارسو وبودابست وبراغ.
مثلت تداعيات الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨ الاختبار الأول الذى فشل الاتحاد الأوروبى فى التعامل معه، فقد انهارت الأسواق العقارية والبنكية فى العديد من البلدان ودخلت اقتصاديات اليونان وأيرلندا وإسبانيا وإيطاليا فى دائرة خطيرة من انكماش الناتج القومى وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وعجز الموازنات العامة. وعلى الرغم من التدخل السريع للبنك الأوروبى لمساعدة الاقتصاديات المأزومة (أيضا لضمان استقرار العملة الموحدة) ومن تفعيل آليات التضامن داخل الاتحاد على النحو الذى وفر مساعدات مالية كبيرة للحكومات اليونانية والأيرلندية والإسبانية والإيطالية، إلا أن تداعيات أزمة ٢٠٠٨ استمرت لسنوات عديدة وبلغت فى ٢٠١٠ منعطفا جديدا بخطر إفلاس اليونان وما تلاه من انقسام داخل القارة بين شمال مستقر اقتصاديا وجنوب يعانى، وبين شعوب فى الشمال ترى أنها تنفق من مواردها وعوائد عملها هى على شعوب مسرفة وكسولة وشعوب فى الجنوب تعتقد أن اقتصادياتها صارت مجرد أسواق لبيع وشراء منتجات الشمال، وبين حكومات فى الشمال تعلن شكليا التزامها بآليات التضامن الأوروبى وتهدد الجنوب بعقوبات اقتصادية ومالية حال عدم الالتزام بشروط الحد من الديون الحكومية وحكومات فى الجنوب تخدع شعوبها بشأن شروط أغنياء الشمال وآثارها المحتملة.
والمحصلة كانت ومازالت فقدان ثقة شعوب الشمال والجنوب فى قدرة الاتحاد الأوروبى على التعامل المتوازن والفعال مع الأزمات الاقتصادية والمالية والإبقاء على وعد الرخاء والتضامن القارى قائما دون إذلال للجنوب أو تمرد مخادع على الشمال.
***
ثم جاء صعود أحزاب اليمين المتطرف والحركات القومية، بل والمجموعات العنصرية فى العديد من بلدان الاتحاد الأوروبى ليشكل أزمة سياسية واجتماعية حادة. من جهة أولى، لم تنكر تلك القوى الصاعدة عداءها للتوجهات الليبرالية للاتحاد فيما خص إلغاء الحدود الفاصلة بين بلدانه وسياسات الهجرة واللجوء ولم تتردد حين بلغت مقاعد الحكم فى الانقلاب عليها. فى المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وإيطاليا حكومات بعضها يغلق الحدود وبعضها يرفض استقبال المهاجرين واللاجئين وبعضها الثالث يريد توزيع القادمين الجدد من المهاجرين واللاجئين على بلدان أوروبية أخرى. وتتواكب مثل هذه التوجهات غير الليبرالية مع انتشار خطابات الكراهية وارتفاع صوت المجموعات العنصرية المعادية لوجود الأجانب فى عموم أوروبا وتواتر الجرائم العنصرية، وكذلك مع زيادة غير مسبوقة فى أعداد المهاجرين واللاجئين الذين يطرقون أبواب القارة. من جهة ثانية، تبدو الأغلبيات الأوروبية قلقة من مستقبل اندماج المواطنين ذوى الأصول الأجنبية والمقيمين الأجانب (خاصة أصحاب الأصول العربية والإسلامية) فى مجتمعاتها، وتتشكك فى أن حكوماتها أو البيروقراطية الأوروبية فى بروكسل تستطيع السيطرة على ظواهر سلبية كالتطرف الدينى ورفض بعض ذوى الأصول الأجنبية لقيم التسامح والمساواة بين النساء والرجال وحقوق الإنسان دون تمييز وتورط نفر أصغر منهم فى جرائم إرهابية.
***
هنا أيضا، ولأن الاتحاد الأوروبى أضحى ينقسم بين بلدان تتمسك حكوماتها بالتوجهات الليبرالية فى قضايا الحدود والهجرة واللجوء وبلدان أخرى تدير شئونها حكومات انتخبت ديمقراطيا لتغلق الحدود وترفض قدوم المهاجرين واللاجئين، تفقد شعوب القارة ثقتها فى الاتحاد وتستسلم تدريجيا لعجزه عن صياغة سياسات جديدة تضمن الحد الأدنى من الحدود المفتوحة وتحمى أوروبا من التداعيات الخطيرة لموجات الهجرة واللجوء الضخمة والتى كانت موجة ٢٠١٥ موجتها الأخيرة.
بريطانيا تتخارج، الحكومة الإيطالية الجديدة (حكومة اليمين الشعبوى والمتطرف) تصارع بيروقراطية بروكسل بشأن الدين الحكومى وتتهم حكومات بلدان الشمال الغنية (خاصة ألمانيا) بالتدخل غير المقبول فى شئونها، حكومة فيكتور أوربان فى المجر تتمسك بإغلاق حدودها وتهدد بإعادة ما فعلته فى ٢٠١٥ حين ألقت بالمهاجرين واللاجئين على حدود النمسا، الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون يغرق فى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية بينما ينتج خطابا سياسيا غير واضح المعالم حول تسريع وتائر الاندماج الأوروبى، حكومة أنجيلا ميركل فى برلين تواصل التمسك بشروط الدعم الاقتصادى والمالى داخل الاتحاد وأهمها خفض مستويات الدين الحكومى وترفض الانفتاح على اقتراحات الإيطاليين وجنوبيين آخرين بينما تقبل تدريجيا التوجهات غير الليبرالية بشأن الهجرة واللجوء، أحزاب يمينية متطرفة وحركات قومية ومجموعات عنصرية تتسع مساحات فعلها بانتظام وتصير مقبولة مجتمعيا على الرغم من خطابات الكراهية التى تنشرها والعنف الذى تتورط به، أغلبيات حائرة تعانى أزمات اقتصادية واجتماعية متصاعدة (الأحداث الفرنسية الأخيرة) ولا تعرف إن كان الاندماج القارى مازال فى ٢٠١٨ السبيل الوحيد للأمن والرخاء.
هذا هو المشهد الأوروبى اليوم، وما أبعده عن آمال الولايات المتحدة الأوروبية التى هيمنت على العقد الأول من الألفية الجديدة.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات