حين يُجمع المجتمع الثقافى، بمعناه الواسع، على رثاء شخص، فلابد أنه استثنائى عابر للانتماءات الأيديولوجية، والشلل النفعية، وتوكيلات التخصص، والصراعات الصغيرة، ويمثل الوداع الجماعى الكثيف له اعترافا تلقائيا بأنه شخص يمتلك خصالا إنسانية فريدة، تمس أوتار القلوب، فيحزن الناس لفراقه، ويتألمون لرحيله.
يُعد هانى رسلان، الخبير البارز فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة الأهرام، نموذجا فاخرا للباحث العميق فى المعرفة، الدءوب فى البحث، الراسخ فى التخصص، المتابع لكل ما يحدث فيه. عرفناه باحثا متميزا فى الشأن السودانى، ولعل نشأته فى جنوب مصر، جعلت عيناه ترنو دائما إلى الجنوب، موطن ميلاد وتدفق نهر النيل، الذى تخصص فيه، وعشقه، وصار علما فى شئونه، يُشار إليه، خاصة فى السنوات الأخيرة التى ارتبطت بالمواجهة مع اثيوبيا فى موقفها المتعنت بخصوص السد الذى تبنيه.
كنت أتابع تعليقاته الفضائية ومقالاته ومدوناته على الفيس بوك، وفى بعض الأحيان كنت أتواصل معه هاتفيا لسؤاله فى شأن من الشئون. فى كل مرة قرأت له أو استمعت إليه، أو تجاذبت الحديث معه أضاف لى معلومة أو زاوية جديدة فى النظر إلى قضايا نهر النيل. أهم ما يميزه فى هذا الخصوص أنه صاحب موقف، لا يُغير موقفه وقناعاته، جسور فى مواجهة الادعاءات، حريص على الدفاع عن حقوق مصر المائية دون تزيد أو ادعاء أو افتعال.
من حق المجتمع الثقافى أن يبكى رحيله، وتتحول المنصات الالكترونية إلى ساحة عزاء مفتوح، فهو باحث لا يُعوض، بما يمتلكه من معرفة وخبرة وعلاقات فى ملف تخصصه، ورحيله فى هذا التوقيت، قد يجعل الوطن يخسر صوتا بحثيا جريئا يشرح ويفسر ويصد الهجمات السلبية، ليس هذا فحسب، بل يمتلك ثقافة موسوعية تشمل الفنون والأدب، تجعل منه مثقفا ذا تكوين خاص.
ولا ينفصل العالم الحقيقى عن دنيا الأخلاق والمبادئ، فالعلم ليس مادة للكسب أو بناء المصالح، بل هى نفع عام، وهو النهج الذى سار عليه هانى رسلان الذى تحلى بالنزاهة الإنسانية والبحثية. منذ سنوات بعيدة، كلما ذهبت إلى مركز الدراسات السياسية أو التقيت به فى ندوة أو مؤتمر تجده بشوشا لطيفا مضيافا، يجسد أخلاق أهلنا الطيبين فى الجنوب، هو أول من يتذكرك فى المناسبات، يرسل لك تهنئة فى عيد أو يعلق بود على كتاب أو مقال كتبته. شخص نزيه، امتلك مشروعه الثقافى فى «دندرة»، الذى دعانى إليه مرة، لكنى للأسف لم أستطع أن ألبى الدعوة.
نودع الباحث الوطنى الرصين هانى رسلان، ونلتمس عزاء لزوجته الفاضلة الأستاذة هدى البكر، الخبيرة المتميزة فى العمل التنموى والأهلى، التى ودعته على الفضاء الإلكترونى بعبارة مؤثرة «يا حبيب العمر كله يا هانى. فى الجنة يا أبو الغوالى»، بالتأكيد علاقة مشاعر خاصة يصعب إدراكها، شهدت الحب والمودة، الحنان والعطف، والدعم النفسى، والمساندة العملية، وهى خصال تمتع بها هذا الباحث الفاضل فى محيطه الأسرى، والمهنى، والثقافى.
إننى أضم صوتى إلى صوت الزميل الأستاذ أشرف أبو الهول الكاتب الصحفى بجريدة الأهرام فى مناشدته إلى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى بتكريم هذا الباحث الفذ، تقديرا لما تحمله خلال فترة مرضه من معاناة لم يتخل خلالها عن شرف الدفاع الجسور عن مصالح مصر القومية، فكان الباحث المقاتل بالعلم أسوة بالجندى المقاتل فى ميدان المعركة، وهى بالفعل معركة.