استيقظ العالم صباح يوم ربيعى عام 2001 على خبر تدمير أكبر تمثالين أثريين لبوذا فى العالم فى ولاية باميان الأفغانية على يد حركة طالبان المتشددة بحجة أنهما نحتا على شكل إنسان وذلك مخالف للشريعة الإسلامية. بُنى التمثالان فى القرن السادس الميلادى فى منطقة باميان التى كانت تعد جزءا مما كان يسمى بطريق الحرير الذى ربط آسيا بأوروبا. حبس العالم أنفاسه واحتجت حكومات ومنظمات تعنى بالحفاظ على الآثار التاريخية والتراث، بينما فجر الديناميت الكنزين الأثريين دون الالتفات إلى أى اعتراض أو تنديد.
***
تذكرت مشاهد تفتيت وسقوط التمثالين حين قرأت عن تهديد الرئيس الأمريكى ترامب إيران بتدمير 52 موقعا أثريا على خلفية التصعيد الجارى بين البلدين. توقفت عن التنفس للحظات كما فعلت مع ملايين المشاهدين أمام الشاشات عام 2001 حين أطلق الرئيس ترامب توعده عبر قنوات التواصل الاجتماعى وتناقلته وسائل الإعلام. بين حادثة تدمير التمثالين على يد متطرفين وبين التوعد بتدمير مناطق أثرية فى إيران ما يقارب العشرين عاما.
***
أحاول أن أستجمع عدد المواقع التاريخية الأثرية التى دمرتها الحروب والسياسات الوطنية الخاطئة فى المنطقة من حولى منذ أن سقط تمثالا «بانيان» دون أن يتوقف العالم عن الدوران. فى سوريا، وبحكم أننى أتابع التطورات فيها عن قرب، فقد البلد كمية مهولة من كنوزه وجماله التى تشهد على تاريخه. ورغم أن لا مجال لمقارنة الخسائر الحجرية بالخسائر البشرية، والتى هى أقسى الخسائر، فإنقاذ الأرواح فى المقام الأول هو الأهم، وقد فقدت سوريا آلاف الأرواح، إلا أنها فقدت معها آلاف القصص التى خبأها سكان البلد منذ آلاف السنين بين المبانى وعلى حيطان البيوت القديمة والمعابد والكنائس. فى مصر، يتم استبدال مبان أثرية بعمارات حديثة ويتم اقتلاع أشجار تعد ثروة وطنية وبيئية بهدف توسيع الطرق وخلق أماكن لسيارات الحى.
***
وها نحن نشهد على مستوى جديد من الأداء يهدد فيه رئيس أكبر دولة فى العالم خصمه بهدم أماكن أثرية كجزء من معركة عسكرية، رغم اعتبار القانون لفعل كهذا فى بعض الأحيان جريمة حرب. لكن لا يهم، فقد أصبح أمرا شبه عادى أن يتم نسف قصر أو كنيسة أو جامع أو سوق أثرى بالديناميت لأغراض عسكرية وسياسية، ما أقصى ما يمكن أن يحدث؟ إدانة من منظمة اليونسكو تذكر بأن تلك الأعمال تعد جرائم فى القانون المعنى بالحفاظ على التراث؟
***
حين زرت مدينة أصفهان الإيرانية منذ أكثر من خمسة عشر عاما، توقف بى الزمن تحت قبب المبانى القديمة فيروزية اللون، وتهت بين نقوش الأسقف حتى شعرت بالدوران من تداخل الخطوط وألوان الأزرق والذهبى فيها. جلست على طرف الطريق فى السوق العتيق أتأمل حركة الناس وأشم رائحة التوابل. تمنيت أن أبقى هناك دون أن ينتبه إلى وجودى أحد وأنا فى حضرة هذا الكم الهائل من الجمال المعمارى والحضارى والإنسانى اليومى فى سوق داس على أزقته ملايين الناس. ولا أعرف إن كنت قد صادفت فى كل تنقلاتى فى العالم مدينة أكثر جمالا من أصفهان.
***
اليوم، ومع كلمات التهديد الحمقاء التى تطال المرافق الأثرية فى إيران، أحاول أن أستجمع ما شعرت به من خشوع أمام كم الجمال الهائل الذى انهال علىّ من المبانى والمساجد والسوق والمحلات والبازار وبائعى السجاد العجمى. تذكرت مطعما صغيرا توقفت عنده فى حارة جانبية وكيف أننى شردت لساعات تساءلت فيها عمّ إن كان من الممكن أن أدافع عن الثقافة بمنأى عن الأنظمة السياسية. أريد أن أمر بيدى على نقوش وأن أشم رائحة الملايين ممن مشوا فى هذه الأزقة من قبلى. أريد أن أقلب فى يدى أوانى من الفضة والنحاس استخدمها أشخاص لم يفكروا قط أنها سوف تعيش لقرون بعد رحيلهم. فى تلك اللحظة فى سوق أصفهان القديم، شعرت أننى أذوب فى بحر لا ينتهى من التاريخ والجمال، بغض النظر عن واقع سياسى كنت وما زلت ضده. لم يهمنى الآنى والحاضر فى ذلك اليوم بقدر ما شعرت بأننى ذرة من الغبار حطت لمدة قصيرة على ناصية سبقنى إليها ملايين البشر.
***
لذا فحين أسمع بتهديدات تطلق بشكل أخرق على مواقع نحن اليوم بأشد الحاجة أن نحافظ عليها، ليس لأنها تمثل نظاما سياسيا إنما لأنها دليل على أن البشرية والحضارة والثقافة والجمال والفن كلها أقوى وأطول عمرا من أى نظام سياسى يحاول أن يمس بالحريات، حين أسمع تلك التهديدات أعود إلى صباح يوم ربيعى قضيته فى محل لبيع السجاد فى السوق القديمة فى أصفهان، شربت فيه أكوابا عديدة من الشاى داكن اللون، لا سكر فيه إنما وضعت قطعة قاسية من السكر فى فمى وارتشفت الشاى المر فذاب السكر، هذه طريقة أهل الأرض هناك. الثقافة تسبق النظام السياسى وسوف تعيش من بعده، تماما كما سوف تبقى الحضارة لتذكر من سيأتى من بعدنا إلى العالم أن الظلم والقمع مؤقتان حتى لو طالا. ربما لهذا السبب يتم تدمير التاريخ والثقافة: فمن ذا الذى يريد أن يشهد التاريخ على صغر حجمه مقابل زخم الحضارة من قبله وبعده؟