يظن البعض أن انهيار الإمبراطوريات العظمى هو محصلة طبيعية لتراخى قبضة الدولة وترهل مؤسساتها السيادية. وعلى الرغم من صحة هذا الاستنتاج فى حالات عدة فإن التاريخ يقف شاهدا على حالات سقطت فيها حضارات عظمى بسبب غلظة قبضة الدولة وليس العكس. فى عام 449 قبل الميلاد أصدرت حكومة روما قانون الألواح الإثنى عشر لتنظيم الحياة التجارية والاجتماعية والأسرية. بعض ما تضمّنته تلك الألواح كان منطقيا ومتسقا مع اقتصاد يحترم العقود والتجارة، ولكن بعضه الآخر تضمّن عقوبات تعسفية قاسية، ومنح سلطات وصلاحيات غير مبررة لعدد من الفئات فى تنفيذ تلك العقوبات.
تشريعات رومانية أخرى عمدت إلى وضع حد أقصى لسعر الفائدة الدائنة عند 8% تقريبا، وكانت الحكومة الرومانية قد اعتادت كل فترة إسقاط الفوائد المستحقة فى تعاملات القطاع الخاص، بحيث تسقط قانونا كل الفوائد المستحقة على المدينين تجاه الدائنين فى المجتمع!
كذلك لجأت روما كثيرا إلى فرض تسعيرة جبرية على القمح، وكانت تقوم بشراء المحصول خلال فترات نقص الإنتاج، وتعيد بيعه فى الأسواق بسعر ثابت تحت السعر السوقى السائد. وفى عام 58 قبل الميلاد تطور هذا النظام بشكل غريب، بحيث أصبحت الحكومة تمنح محصول القمح مجانا للجمهور! وكنتيجة مباشرة لتلك السياسة تخلّى المزارعون عن الأراضى الزراعية ونزحوا إلى العاصمة، تاركين مساحات شاسعة من تلك الأراضى المحيطة بروما مهملة، الأمر الذى عمّق من الأزمة، وتسبب فى مزيد من العجز فى إنتاج محصول القمح الاستراتيجى. من ناحية أخرى كانت تكلفة إطعام العبيد (تلك الفئة الهامة اقتصاديا كأحد أبرز عوامل الإنتاج حينذاك) فى ارتفاع مستمر، فلجأ السادة إلى فك رقاب العبيد وتركوهم للحكومة كى تطعمهم مجانا!.
وفى عام 45 قبل الميلاد يذكر الاقتصادى «ريتشارد إبلينج» أن «يوليوس قيصر» قد اكتشف أن نحو ثلث شعب روما يحصل على احتياجاته من القمح مجانا من الدولة، مما أثقل الموازنة العامة بتكاليف لا يمكن احتمالها، فلجأت الحكومة إلى تخفيض قيمة العملة، وأعقب ذلك موجات تضخمية عنيفة فى دورات لا تنتهى. الاقتصاد الرومانى عندئذ بات رهينا للتضخم، وتثبيت أسعار المحصول الرئيس، وعجز فى إمداداته، وعجز فى الموازنة العامة للدولة، وتخفيض فى قيمة العملة مما يؤدى إلى مزيد من التضخم... وهكذا ظلت الأزمة الاقتصادية الرومانية تتعقّد باستمرار، بسبب عدم فهم حكومات روما القديمة للسلوك الاقتصادى الرشيد، ولحدود التدخل فى النشاط الاقتصادى، ومواءمة الدورين الاجتماعى والاقتصادى للدولة على نحو لا يرهقها اقتصاديا، ولا يخل بقوى العرض والطلب فى الأسواق.
***
لكن تظل أبرز حلقات التحكم فى الأسعار فى تاريخ روما القديم، هى التى تمت فى عهد الإمبراطور «دقلديانوس» (244م ــ312م) الذى تولى عرش روما عام 284م وبدأ على الفور فى زيادة الإنفاق العام على نحو غير مسبوق، من أجل تمويل مشروعات حكومية عظيمة التكاليف.
وفقا لـ«ريتشارد إبلينج» ارتفع فى عهد دقلديانوس الإنفاق على تسليح الجيش والإنفاق العسكرى بصفة عامة. كذلك تم البدء فى إقامة عاصمة جديدة للإمبراطورية الرومانية فى آسيا الصغرى (تركيا حاليا) فى مدينة «نيكوميديا». توسّعت البيروقراطية الرومانية فى عهد «دقلديانوس»، وتم تسخير العمالة لإنهاء المشروعات الكبرى التى خطط لها. ومن أجل تمويل تلك الأنشطة الحكومية قام الإمبراطور برفع الضرائب على جميع فئات الشعب الرومانى، وقد نتج عن ذلك ما هو متوقع من تراجع الحافز للعمل والإنتاج والادخار والاستثمار، وما نشأ عن ذلك من تدهور حركة التجارة.
وعندما عجزت الضرائب عن تمويل احتياجات الإنفاق العام، لجأ الإمبراطور إلى تخفيض قيمة العملة debasement of the currency وكان ذلك يتم تاريخيا عبر مزج المعدن النفيس المكون للعملة (من ذهب وفضة) بمعادن أساسية رخيصة، وتخفيض وزن المعدن النفيس فى العملة الجديدة. ثم أصدرت الحكومة القوانين التى تجبر المواطنين فى روما ومختلف الأصقاع التابعة للإمبراطورية على تقبّل العملة المصدرة حديثا بنفس قيمة العملة القديمة، بعد سك تلك القيمة كتابة على وجهى العملة. لكن مرة أخرى عجزت الدولة عن فهم السلوك البشرى، الذى جنح إلى تقبّل العملة الجديدة فى التداول ولكن بقيمة مخفّضة، وسرعان ما ساد قانون طرد العملة الرديئة للعملة الجيدة، حيث لجأ المتعاملون إلى تخزين العملات ذات المكون الأعلى من الذهب والفضة، وسادت العملة الجديدة فى الأسواق، لكن كما سبقت الإشارة لم تعد تشترى نفس القدر من السلع والخدمات بذات الثمن الذى بيعت به مقابل العملات الجيدة، وهذا هو التضخم، الذى استشرى مع لجوء الإمبراطور إلى سك المزيد والمزيد من تلك العملات الرديئة لتمويل الإنفاق العام.
لم يتوقف «دقلديانوس» عند هذا الحد من العبث بالاقتصاد، فقد فرض ضرائب عينية عوضا عن الضرائب النقدية، إقرارا منه بأن نقوده الرديئة لا قيمة لها. الأمر الذى تسبب فى شلل حركة الاقتصاد، وربط السكان بالأرض أو بمراكز الإنتاج المباشر للسلع التى تقبلها الدولة لسداد الضرائب! هذا فرض تغيرا هيكليا على اقتصاد الإمبراطورية، الذى أصبح جامدا متكلسا فضلا عن العيوب آنفة الذكر.
وفى عام 301م أقدم الإمبراطور على إصدار أسوأ مرسوم فى تاريخ البلاد والمعروف بمرسوم دقلديانوس. فقد قام الإمبراطور بتثبيت أسعار القمح واللحوم والبيض والملابس وعدد من المنتجات الأخرى. كما قام بتثبيت أجور العاملين فى إنتاج تلك السلع، وكانت العقوبة التى أقرها على مخالفة تسعيرته الجبرية هى الموت!! نتيجة لهذا المرسوم المخيف اختفى أى حافز للإنتاج والتجارة فى تلك السلع، والتى يعنى الاستمرار فى إنتاجها وتداولها إما الخسارة (بالبيع تحت القيمة العادلة) أو الموت (لمخالفة التسعيرة الجبرية الظالمة). وقد استبق المرسوم أى محاولة لاحتكار تلك السلع ومنعها من الأسواق (كنتيجة منطقية لرفض التسعيرة الجبرية) بعقوبات المصادرة للسلع والموت أيضا للمحتكر.
فى الأجزاء اليونانية من الإمبراطورية الرومانية عثر الأثريون على جداول التسعيرة الجبرية لأكثر من ألف صنف من السلع والأجور، التى أقرتها الحكومة وفرضتها على الشعوب الخاضعة لسيطرتها. وقد وجدت مخطوطة لرجل رومانى يدعى «لاكتانيوس» كتب فيها عن «دقلديانوس»: «..إنه نصّب نفسه وليا على تنظيم أسعار كل ما يتم تداوله. وكان هناك الكثير من الدماء المسفوكة على جوانب مخالفات تافهة، مما جعل الناس يعزفون عن إدخال مزيد من السلع إلى الأسواق. وقد ساهم ذلك فى تعزيز ندرة تلك السلع، وفى النهاية وبعد أن مات عدد كبير من البشر بسبب تلك القوانين، تم تنحيتها جانبا».
يقول المؤرخ الاقتصادى «رولاند كنت» ملخّصا تلك الحقبة الرومانية تحت حكم «دقلديانوس»: «إن الحدود السعرية التى فرضها المرسوم لم يعن بها التجار، على الرغم من عقوبة الإعدام التى فرضت على مخالفيها. وكان احتكار السلع يتم بشكل منظم تحاشيا للعقوبات وللعصابات التى شكّلت لمعاقبة التجار المخالفين، وكانت السلع المهرّبة تباع بأثمان أغلى من تلك التى فرضها القانون».
***
الآثار الاقتصادية لمرسوم «دقلديانوس» كانت مدمّرة، وبعد أربع سنوات من صدور المرسوم تنحى الإمبراطور عن السلطة بزعم تدهور حالته الصحية، ويرى المحللون أنه إن لم يكن تنحى طواعية لتم عزله بالقوة أو اغتياله كما كان سائدا فى هذا الزمان. وعلى الرغم من عدم إلغاء ذلك المرسوم اللعين رسميا حتى يومنا هذا! فإنه سرعان ما صار حبرا على ورق بعد غياب «دقلديانوس» عن السلطة.
يقول الاقتصادى النمساوى الشهير «لودفيج فون ميزس»: «بدأت الإمبراطورية الرومانية تضعف وتتحلل كونها افتقرت إلى فلسفة الحقوق الفردية والأسواق الحرة، تلك الأفكار والإيديولوجية اللازمة لبناء وحماية المجتمع». ويتابع: «إن الحضارة الرومانية العظيمة لم تصمد، لأنها لم تضبط بوصلتى نظامها القانونى والأخلاقى على متطلبات اقتصاد السوق». باختصار يرى «ميزس» أن الدول التى تصدر تشريعات تخالف روح المنافسة والسوق الحرة، وتجرّم السلوك التنافسى عوضا عن تحفيزه وتشجيعه، وتتبنى نسقا أخلاقيا معاديا للطبيعة البشرية، لابد أن تندثر وتسقط مهما كانت حضارتها قوية، ومهما بلغت جيوشها واتسعت رقعة سيطرتها.
كذلك رأى العديد من المؤرخين والاقتصاديين أن «دقلديانوس» كان لا يؤمن بالقيم الفردية ويتبنى مفهوما فوقيا للدولة على حساب مصالح الأفراد. وأن تنظيم الأسواق بالكيفية التى فرضها مرسومه يمكن أن ينجح خلال فترات محدودة جدا، وعلى نطاق ضيق للغاية، لكن استدامة هذا النوع من سيطرة الدولة أمر مستحيل، سواءً فى روما القديمة، أو فى الاتحاد السوفيتى العظيم الذى تهاوى لأسباب مماثلة، أو فى أى مكان وزمان.