أسوأ ما تنتظره المنطقة العربية هو صراع مذهبى سنى شيعى، يجعلها تعيش حالة أقرب إلى تعريف «هوبز» القديم حالة «حرب الكل ضد الكل». هذا الصراع الذى أصبحت له جبهات مفتوحة فى العراق واليمن وسوريا ولبنان، ويُراد له أن يمتد فى معارك ممتدة تأخذ شكل «الحروب الصغيرة» أو الصراعات منخفضة الكثافة أو الدسم. يستباح فيه كل شىء: القتل على الهوية، الانتهاك المريع لحقوق الإنسان، والانقضاض على تجربة الحداثة المحدودة فى المنطقة، إزاحة الصراع العربى الإسرائيلى من المشهد، وتقويض مساعى إنشاء دولة ديمقراطية تحترم حقوق مواطنيها، وتصون الحريات العامة. ظلت الشعوب العربية لعقود طويلة تطالب بالديمقراطية، وكانت إجابة الأنظمة المستبدة دائما «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ــ معركة المصير والكرامةــ الصراع ضد الكيان الصهيونى المغتصب، رغم أنها لم تحارب أو تطلق طلقة واحدة على إسرائيل، الآن لم تعد الصورة كذلك، حيث تقدمت معارك أخرى على المعركة الرئيسية: وهى الحرب ضد الإرهاب التى تتعرض هى الأخرى للإزاحة بفعل الصراع الأكبر «الشيعى السنى». إذا كان هناك من يرى أن مواجهة التطرف ينبغى أن تكون لها الأولوية لأنها ترتبط بمستقبل التقدم فى هذه المنطقة، وهى مسألة صحيحة مائة بالمائة، هناك آخرون يرون أن التطرف ليس هو المشكلة، ولكن الصراع المذهبى له الأولوية، أليس الآن وقود المعركة على جبهات عديدة تقودها كيانات متطرفة: سنية من ناحية (القاعدة، جبهة النصرة، داعش، إلخ)، والميليشيات الشيعية من ناحية أخرى؟
النتائج متوقعة إلى حد كبير. فى البلاد التى تشهد هذا النمط من الصراع يتدهور الاقتصاد، وتنتهك حقوق النساء والأطفال على وجه خاص، وتتدهور إلى حد الانهيار البنية الأساسية، والخدمات العامة، وينكمش الفضاء العام، وتسود ثقافة الخوف والكراهية، وتتشكل «ذاكرة صراعية» لدى كل الأطراف. أدى الصراع فى سوريا إلى تهجير أربعة ملايين خارج البلاد، ونحو ستة ملايين أخرين داخل البلاد، فضلا عن نقص حاد فى الدواء والغذاء، وتدمير القدرات الزراعية والصناعية فى هذه الدولة. وهناك توقع أن يؤدى انغماس اليمن فى حرب شاملة متعددة الجبهات إلى أزمة إنسانية أشد مما هى عليه فى سوريا، وقد ينتهى الأمر بأن يصبح تنظيم «القاعدة» هو صاحب السيطرة الفعلية على الأرض، وإلى جواره تنظيمات أخرى وقبائل متصارعة، كما حدث فى مناطق عديدة من سوريا التى يسيطر على بعضها داعش، وتسيطر جبهة النصرة على البعض الآخر.
الصراع «الشيعى السنى» قائم، الذاكرة تكفل بقاءه، ولكن لا ينبغى أن نغفل أن صراع الجماعات المختلفة على الموارد والسلطة يشكل فى ذاته عاملاً أساسياً ينبغى التعامل معه بأسس الدولة الديمقراطية التنموية، التى تعطى الحرية والحق فى الحياة الكريمة لمواطنيها. هل يمكن أن يتحقق ذلك، هل تمتلك الأطراف الرشادة أم يعميها صراع السلطة والنفوذ والرغبة فى الهيمنة وفرض التصورات؟. ويجب أن نتذكر أن هناك دولاً خرجت من حروب دينية ومذهبية طاحنة بالعلمانية، والتسامح، والتداول السلمى للسلطة، ولكن المنطقة التى نعيش فيها ــ على ما يبدو ــ لن تخرج من هذه الصراعات سوى بالخراب والدمار، والإجهاز على الموروث من التنوع.