خبرٌ صغيرٌ ورد على استحياء فى صفحة من الصفحات الداخلية لجريدة يومية شهيرة. الخبرُ يشيرُ إلى تعيين قائدِ شرطةٍ جديدٍ فى إحدى المُدن الأمريكية. المدينة ليست كأى مدينة فهى فيرجسون ذائعة الصيت التى شهدت اضطرابات عنيفة خلال أشهُرٍ مُتتاليةٍ، على خلفيةِ اضطهادِ شرطتها للملونين وعلى وجه التحديد أصحاب البشرة السوداء، فقد قُتِلَ منذ فترة ليست بعيدة فتى أسود يُدعى مايكل براون برصاص ضابطٍ أبيض، وأظهرت التحقيقات أن القتيل لم يكن يشكل خطورة ولا قاوم الضابط ولا امتلك سلاحا. ثار المواطنون ووقعت اشتباكات بينهم وبين قوات الأمن وتفاقمت الأمور، ثم تواترت حوادث أخرى، تبلورت فيها مسألة الاضطهاد وبدت فى غير حاجة إلى إثباتات وأدلةٍ جديدة.
ظهرت عشرات المقالات التى تُحلِل وتفسر وتهتم بالتأصيلِ التاريخى لما جرى ويجرى، انطلق باحثون ومُحللون يتفاعلون ويشتبكون مع الواقعة وتبعاتها، ويضعون أطروحاتهم ومُقترحاتهم لحلِ المشكلة المُتجذرة فى المجتمع.
بمرور الوقت فَترت متابعتى للموضوع وتوقفت عن البحث عما يطرأ مِن كتابات، وتصورت أن هِمَة المُعترضين قد خَفَتت هى الأخرى، وأن الأمر انتهى عند هذا الحد وانسحبت عنه الأضواء، إلى أن جاء الخبر المفاجئ بتعيين أمريكى مِن أصول أفريقية؛ أى أسود البشرة، فى المنصب الأمنى الرفيع. أدركت أن احتجاجات المواطنين لم تخفت ولا بردت حماستُهم طيلة الأشهر الماضية حتى تحقق لهم انتصارٌ أكيد. أدركت أيضا مُندهِشة أن السُلطات الأمريكية لم تتجاهل الأزمة، ولا قررت تناسيها أو إنكارها، ولا أجَلت التعامُل معها إلى أن تقع واقعةٌ أخرى تُشعِلُها مِن جديد. لم يصنع المسئولون بالتعبير الشعبى الدارج «أذنا مِن طين وأذنا مِن عجين».
***
الأكثر مَدعاة للدهشة أن هذا الرجل الذى صار قائدا للشرطة منذ أيام، اختبر نيرانَ العنصرية والاضطهاد وهو بعد صبى يعيش فى حى فقيرٍ، وقد ثار عليها وشارك فى أحداث عنفٍ وشغب اندلعت مَطلع الثمانينيات، مَدفوعا بتنامى انتهاكاتِ الشُرطة البيضاءِ ضد مواطنيه السود.
فكرت أن ثمة فروقا شاسعة ما بين استجابة النظام هنا وهناك، فلو أن الصبى «الذى هدد الأمن القومى» طِبقا لتعريفاتنا الفضفاضة والذى صار الآن قائدا لشرطة فرجسون، لو أنه كان مواطنا مصريا، لرأيناه مُعتقلا فى أحد السجون أو مَخفيا لا يَعرِفُ له أحدٌ طريقا. لو كان مواطنا مصريا لناله مِن التنكيل ما أسكته دهرا، ولاحتل مكانه فى قائمة الخطرين، ولطاردته الأجهزةُ الأمنيةُ على أنه إرهابيٌ أصيلٌ، وربما لجأت إلى تصفيته وأراحت بالها أو أوكلت أمره إلى عصابة مِن العصابات لتنهيه، ولو قُتل شابٌ مصريٌ يافعٌ فى هذه اللحظة على أيدى قوات الأمن، لأعلن المسئولون أن الحادثَ فردى، وأن الشرطى لم يُطلِقَ الرصاصَ وأن الرصاصَ لا يُميت.
لحسن الحظِ أن الرجلين أمريكيان وأن المسئولين هناك لهم آذانٌ مِن شحمٍ ولحمٍ وأعصابٍ تؤدى وظيفتها الطبيعية، وتُمَيز أصواتَ المكلومين والمظلومين، كما أن لهم عقولٌ قادرةٌ على تقييم الأزماتِ والمواقفِ الحرجة، ومُدربة على النظر إلى الصالحِ العام لا إلى المصالحِ الضيقة، وعلى استشرافِ مُستقبلِ الوطنِ لا مُستقبلِ الحاكمين.
***
يبدو أن أُذنى السُلطة المُستبدة مصنوعتان دوما مِن طينٍ وعجينٍ، يُحيط بهما الصخبُ لكنهما لا تنقلانه ولا تستوعبانه، تصطدم بهما الصرخات لكنها ترتد خائبة دون أن تجد لها منفذا. أذنا السُلطة التى ترتكز على قمع البشر لا يوجعهما أنينٌ ولا ضجيجٌ، وتلك فرضية يؤكدها النظامُ الذى يحكمنا ليلَ نهار ويُثبتُ صِحَتَها بالأدلةِ والبراهين، بل ويزيد عليها عِللا ونواقص. أخيرا أشاح النظامُ بوجهه عن اعتداءِ أفرادِ الشُرطةِ على أطباءِ مُستشفى المطرية وكأنه لم يسمع بالأمر، وقد امتدت الاعتداءات إلى أمكنة أخرى يقصدها المرضى للتداوى لكن الصمم تجاوز أصوات آلاف الأطباء الشاكين. عجز النظام فى مشهد آخر عن سماع العالم بأكمله يسخر مِن المحاولات الساذجة للتنصُل مِن جريمة قتل الشاب الإيطالى وتعذيبه، ومِن التمادى فى اختلاق الحكايات المُنفلِتة بناء ومنطقا، ومع فقدانه المُضطرد لحاسة السَمعِ راح يهاجم صحفيين وحقوقيين ويحاول إغلاقَ جمعيات ومراكز ترصد تبعات أفعالِه ومظاهرَ اختلالِه.
آخر تلك المحاولات حتى لحظات الكتابة تمثلت فى سعى النظام إلى إغلاق مركز النديم، دون الإنصات إلى أصوات عاقلة تأتى من كل حَدبٍ وصَوب، مُدافعة عمن دأبوا على الدفاع عن المقهورين. تمتد علاقتى بالمركز لما يزيد على السنوات العشر، وأعرف يقينا أن مؤسسيه مِن النُبل والصلابة ونقاء الضمير بما يكفى للزود عنه وعن المقموعين على وجه الأرض كافة.
***
كفى بنا أن نلقى نظرة عامة على الحال التى صرنا إليها، حتى ندرك أن مسئولينا يملِكون ــ إضافة إلى الأذنين المُصمَتتين رؤوسا مِن طينٍ وعجينٍ.