خلال السنوات القليلة الفائتة، وفي أرجاء الحيّ العتيق، تحوَّلت مُعظم البيوت الصغيرة التي لا يزيد ارتفاع أي منها عن طوابقٍ أربعة، إلى أبراجٍ مرتفعة؛ يصل كلٌّ منها إلى عشرة أدوار ويتجاوزها إن أمكَن، حاجبًا جزءًا مِن السماء.
***
تُخْلَى البناياتُ الصغيرة من سُكانها؛ يغادر أغلبُهم إلى ضواحي ذاع صيتُها على أطراف الحيّ الأصليّ، مَجبورين أو راغبين، ثم تبدأ عمليةُ الدكّ والتسوية بالأرض، تصير الجدرانُ عدمًا، وتُنتزع مِن قبلِها النوافذُ والأبوابُ والأخشابُ ذات القيمة، يُجرَّد البيتُ من متاعه ومن كلّ ما تيسَّر حملُه وبيعُه، ليأتي دورُ الحجارة التي صمَدت لعقود، والتي تعجز بطبيعة الحال عن الصمود في وجه الحفَّارات والجرافات والمُعدات الثقيلة.
***
لا تمر أسابيع إلا وتُرمَى الأساسات، وتصعد أعمدةُ الخرسانة، وتتضح معالمُ البرج الوليد شيئًا فشيء، لا يُخفي قُبحًا ولا يُواري سوءًا. مِعمار يستغلُّ في أغلب الأحيان المساحات الموجودة بضراوة، ويعتصرها حتى القطرة الأخيرة ليضيف أمتارًا ترفع الثمَنَ وتُزيد المكاسبَ والأرباح. لا حَرَم لكلّ بُرج بل جدار بجدار وكتف بكتف، والشاري لا يهتمُّ في العادة سوى بما لديه من براح داخليّ؛ لا يُفَضّل الشُرفةَ ولا يعبأ بحديقةٍ صغيرة تُحيط بمَوطِن سكنِه؛ كُلٌّ مُنغلِق في مَوضعه مُغلقٌ نوافذَه، لا يعرف اسمًا لجاره ولا يريد أن يتعرَّف به.
***
بالقرب مِن البيت الذي أقطنه كانت هناك بيوتٌ لها طابعٌ مِعماريٌ جميل؛ مُكوَّنة مِن طابقين أو ثلاثة على أقصى تقدير؛ وقد خضعَت تدريجيًا للهدمِ بيتًا تلو الآخر. حلَّ برجٌ سكَنيٌّ مَحَلَّ أحدها كما هو مُتوَقَّع، فيما بقيت الأرضُ فضاءً في مَوضِع ثلاثة بيوت أخرى، ولم يكن هذا الأمرُ مألوفًا في المنطقة؛ فما إن تُغتال بنايةٌ قديمةٌ حتى تُسابق الجديدةُ الزَّمنَ كي تثبتَ وجودَها.
***
مرت الأسابيعُ والشهورُ دون أن تتبدلَ الحالَ؛ الأراضي فضاءٌ والحرَّاسُ يتعاقبون عليها، بعضهم يستغلُّها في أعمال تُدِرُّ عليه شيئًا من المال، وبعضهم يطرده صاحبُ المِلك خوفًا من تغوُّله عليها واستقراره فيها، ومرات تُترَك الأرضُ بلا حُرَّاس. يتساءل السُّكان القلائِل الباقون من زمَن ولىّ؛ عن مَوعد بدءِ أعمالِ البناء، ويأملون في ما يُعطّلها، ويتبادلون حكاياتٍ لا أصلَ لها ولا جِذر، عن مالِك أرض وجد من العراقيل ما يمنع بناءَ البُرج، وما يضع ضوابطَ صارمة للارتفاع به، فيقوض الملايين المُتوقَّعة من ورائه ويجعله غير مُجزٍ. يَرجون في صدورهم وبينهم وبين بعضهم البعض؛ أن يصرف الباني نظرًا عن خُطتَه، وأن تظلَّ الأرضُ خاويةً، وإن بات مَنظرها كئيبًا مُقفرًا.
***
ارتفعت ذات يوم يافطةٌ بارزة، لها لون يجذِب الأعينَ ويشدها؛ تشير إلى تحويلِ قطعة من الأرض إلى "جراج". كانت اليافطةُ بمنزلة دعوة مُغرية لمَن يريد مِن أهل المنطقة، فكرة ذات وجاهة ورجاحة يمكن الاستفادة بها؛ إذ الشارع قد بات شديد الازدحام مع تكاثُر الأبراج، وتضاعُف أعداد المُقيمين فيه، ولم تعُد هناك أماكن كافية للسيارات التي يصعد بعضُها على الأرصفةِ، ويقف بعضُها الآخر مائلًا، ومنها ما يبيت صفًا ثانيًا، وكثيرة هي الحوادث التي تقَع لها دون أن يمكن تجنبها؛ تطير مرآةُ بلا رَجعة، أو ينحرف رفرفٌ عن مَوضِعه، أو يُصَاب بابٌ بخدوشٍ وانبعاجات تحتاج للمُداواة.
***
انتظرت أن يمتلئ الجراج عن آخرِه، وأن يتسابق السُّكان على حَجز الأمكنة، وأن تصلَ إلى مَسامِعي ضجةُ الرائحين والغادين، ويستحيلُ المكانُ الذي اتسم ذات يوم بهدوءٍ وسَلام إلى مَوطِن اشتباكٍ وصَخب؛ فالأمر لا يَسلم مِن خِلاف بين زبون وآخر، وبين صاحبِ سيارة وسائس، وخلافاتنا في العادة لا تُحَلُّ إلا بالصوتِ العالي الذي يخبر القاصيَ والدانيَ بالقصة وما جرى.
***
لم يحدث شيءٌ من هذا، بل بقيت الأرضُ خالية. طرقها توك توك وحيد، ثم عربةٌ خشبية دون الحصان الذي يجرها، وميكروباص وقفَ ولم يُغادر مكانَه لأيام. بدا أن "الجراج" لن يُحقّق النجاحَ المُنتَظر، عَزَفَ القاطنون عن استخدامِه لسببٍ لا يعرفه أحد؛ تمامًا مثلما لم يعرف أحدٌ لما لم ينشَق باطنُ الأرض، وتبرز منه أعمدةُ الحديد المُسَلَّح، ثم ينطلق البرجُ متباهيًا.
***
بقيت فترةً أراقب المَوقِف إلى أن ارتجَّ الشارعُ في أحدِ الأيام واهتزَّت النوافذ؛ وأدركت بعد لحظات استطلاعٍ وتساؤل أن بيتًا صغيرًا أخيرًا يتعرَّض لهجمةٍ جديدةٍ كاسحة. وَصَلَت مُعِدَّات الهَدم، وشرعت في إسقاطِ الجُدران، وسُرعان ما تناثرت شائعاتٌ عن ضَمّ الأرضِ التي احتضنته إلى القِطع المجاورة لها عمَّا قريب؛ لتغدو جميعُها قطعةً واحدةً؛ تسمح بتشييد بُرجٍ أكبر وأعرض وأطول. بُرجٌ أكثر بريقًا وأعلى سعرًا في السوق.