روبن هود جديد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روبن هود جديد

نشر فى : السبت 8 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 8 يونيو 2013 - 11:10 ص

يفزع من لم يزر منطقة وسط البلد منذ فترة طويلة، حين يضرب أذنيه إذ فجأة صوت صراخ عال أجش، يبدو أن صاحبه مجهد الأحبال الصوتية من فرط ما صرخ.

 

يظن العابرون للوهلة الأولى، أن شجارا قد بدأ للتو، وما أكثر الشجارات الصوتية التى صارت فى هذه الأيام تتطور إلى طعنات، وتنتهى بمصابين وضحايا كثر. قبل العدو بعيدا عن مصدر الاقتتال المحتمل يأتى الاكتشاف العجيب؛ الصوت مصدره أحد شباب الباعة «الجائلين» مجازا، «المستوطنين» فعلا، الذين استقروا منذ فترة ليست ببعيدة فى المكان، وافترشوا الشوارع التى كانت ذات يوم واسعة، كأنما ولدوا وترعرعوا فيها.

 

رويدا رويدا، ومع زوال الجزع وتتبع الصوت الذى يتحدى صخب المكان ونفير العربات، ويتغلب عليها مدفوعا بثقة صاحبه، ومع بعض التدقيق فى محتوى العبارات المتطايرة، يمكن تمييز جملتين واضحتين: «أنا حرامى يا ناس»، و«قرب يا معفن ياللى معندكش فلوس».

 

يقترب الناس بالفعل من الشاب، ولا يشعر المقتربون والمشترون بحرج تجاه انطباق ندائه «يا معفن» عليهم، يدرك الجميع أن النداء مجازى، ويتشاركون الإحساس العام بالفقر المتزايد، ولا يجدون غضاضة فى الاعتراف بضيق ذات اليد. يقترب الناس ويفتشون فى البضاعة بنهم يعقبه رضاء، واستعداد للتفاوض. هل كان مثل هذا النداء جارحا ومنفرا فيما مضى؟ ربما، لكنه لم يعد هكذا.

 

يدرك الناس أيضا، إن أكوام الملابس الملقاة أمام الشاب لم تأت عن طريق السرقة المباشرة، لكنها ولا شك جاءت عبر طرق غير مشروعة، فقدت خلالها ثلاثة أرباع قيمتها الحقيقة على أقل تقدير، وهو ما يضاعف من إقبالهم عليها، ورضاهم بها وببائعها، إذ يتسرب إليهم شعور لا إرادى بالامتنان.

 

لا يكف الشاب عن القفز فى الهواء وقذف عباراته، وابتكار تنويعات عليها بين الحين والحين، مع الاحتفاظ بالمضمون دون تغيير: اللص الشريف، الذى يسرق ليعطى الفقراء. على كل حال، فى هذا الإطار الذى يرسمه لنفسه بوعى كامل وحساس لحالة زبائنه المزاجية، لا يعود لندائه أى وقع سيئ فى النفوس، ولا تصبح سرقاته فى عرف الكثيرين جريمة حتى وإن كانت حقيقية، بل هى تغدو أمارة من أمارات الشهامة والبطولة.

 

إنها ببساطة؛ الصيغة التطبيقية المباشرة لفكرة العدالة الاجتماعية التى نادت بها الثورة: انتظرها الناس، وتغنى بها الشعراء، رسمها الفنانون، ونظَّر حولها المثقفون، ثم اغتصبتها السلطة. العدالة فى أن يجد الفرد ما يرتدى، وما يأكل، وأن يتمتع فى كليهما بالشكل والمضمون اللائقين، حتى وإن لم يملك المقابل.

 

●●●

 

الشرطة حاضرة بكامل هيئتها، وعرباتها داكنة الزرق تقف بالقرب من الباعة، قد يرتكن إليها بعضهم، ويضع فوقها جزء من بضاعته بشكل عفوى، لكن هذا الشكل يصبح حقا مكتسبا بمرور الوقت، وبتبادل أكواب الشاى والدخان وعلب الكبريت، والقفشات اللاذعة بين هؤلاء المتلاصقين دون كدر ظاهر. هكذا يجتمع فى المشهد الحرامى والشرطى، وينضم إليهما المواطن، الذى يدرك بفطنته حالة التعايش والمهادنة القائمة بين الأطراف كلها، ويستريح إليها مع قليل من الشك. يبدو المشهد كما لو كان مقتطعا من فيلم المبدع داوود عبدالسيد مع بعض التصرف.

 

●●●

 

يمثل الشاب الصارخ، صيغة متطورة من روبين هود الإنجليزيّ، وعلى زيبق المصريّ. الصيغة التى أفرزها المجتمع الحالى، فاتسمت بكامل ما فيه من غضب، وتحد، ومصارحة يمكن وصفها فى كثير من الأحيان بالفجاجة. كان هؤلاء اللصوص الأسطوريون يتوارون عن الأنظار بمجرد إتمام سرقاتهم «الشريفة»، يختفون فى غابة أو مغارة، يفرقون الغنائم على المحتاجين والضعفاء، ثم يكمنون بمنأى عن أعين السلطات إلى أن يحين أوان القيام بسرقة أخرى.

 

روبن هود الجديد؛ يصرخ فى وجه السلطة بأنه حرامى، ويجهر بالجرم، ويدعو إليه الراغبين، والسلطة تقر بوجوده، والمواطن يتواطأ معه؛ تارة احتياجا لما يقدمه إليه من خدمات، وتارة محض تعاطف ممرور. الأوراق جميعها مكشوفة وملقاة على الأرض، لكن المشهد ثابت لا يتغير، كما لو كان هناك اعتراف متبادل بوجود مصلحة مشتركة، بإننا جميعا لصوص بشكل أو بآخر. 

 

●●●

 

صحيح إن الأمور تبدو هادئة أليفة، لكن حال التربص مكمنه الصدور، ولا يدرى أحد إلى متى يستمر التعايش، وإلى أى مدى سوف يحتمل الفضاء المكانى ما يكتظ به من متناقضات. 

 

بعيدا عن التفاصيل المستقبلية، أظن أن الشاب سيبقى فى مكانه، وسيكمل ما بدأ، ومثله عشرات فى منطقته، وربما مئات وآلاف فى مناطق متاخمة، وقد يتجاوز بعضهم ــ وهو أمر ليس ببعيد ــ لطف روبين هود، وخفة على زيبق، ومستوى أفعالهما، إلى مستوى آخر أعلى وأبعد من شحنة ملابس قديمة أو مستخدمة، أو حتى مُهَرَّبة. سوف يكمل، وقد يحقق ما فشل فيه الآخرون. 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات