انطلق حارس العقار بين أدوار البناية، يطرق الأبواب، ويسأل من أين يأتى هذا الضجيج الذى يرج الجدران؛ فقد شكت السيدة العجوز التى تقطن الطابق الأرضي، من دقات متوالية وعنيفة، تنهال فوق رأسها دون توقف؛ أرسلته يستطلع الأمر ويطلب الهدوء فى فترة الظهيرة؛ إذ الناس صائمون ونائمون.
وقفت الجارة ببابها، تكمل دور الحارس، وتساعده رافعة صوتها، تعلن الاستياء ممن يزلزل سقف غرفتها ويسقط عنه الجير، وفى الوقت ذاته تنصت لردود الساكنين؛ تريد أن تكشف من فيهم المذنب بإيقاظها وتخريب ممتلكاتها. عاد الحارس إليها دون نتيجة، وقضى وقتا طويلا، يحاول إقناعها بأن الأمرين منفصلان؛ الدقات وسقوط الجير، راح يؤكد لها أن السقف له زمن طويل، لم يخضع لصيانة أو حتى لتنظيف، وأن ما وقع منه ليس إلا اللون الذى تغير على مر السنين، وصار كالحا، يحتاج إلى يدى نقاش وفرشاه، ليستعيد حاله الأولى.
***
احتل أمر السقف مساحة من أحاديث المائدة ومسامرات ما بعد الإفطار؛ تطرق المتحادثون من أهل البيت والضيوف إلى أنواع متباينة من السقوف وأشكالها، المعتاد منها والمائل، الخرسانى والخشبي، السقف الغنى المزود بأضواء ونقوش، والسقف الفقير الذى لا يدخل فى مكوناته إلا القش والنسيج؛ سقف يبعث على البهجة ويستجلب الراحة، وآخر يشتعل باشتداد الريح الموسمية، ويستدعى إلى المخيلة المنهكة ضروبا من الجان والعفاريت.
تذكر ضيف عزيز ما جرى لسقف منزله بسبب صنبور؛ ترك مفتوحا فى الشقة التى تعلوه، وراح يقص على الجالسين مشقات إصلاح ما فسد. حكى آخر كان يقيم فى منطقة ساحلية، عن سقوف البيوت المتهالكة؛ بفعل اليود وأشعة الشمس الحارقة، وحيث الملح الذى يأكل الألوان وخامات البناء، وينخر فى الحديد، ويتخطى المواد العازلة، ثم يراكم صدأ مستعصيا على العلاج، ويجعل الجدران والسقوف كما الغربال. تعاطف كلاهما مع الجارة العجوز وسقفها المجروح، بغض النظر عن الأسباب.
***
السقْف فى المعاجم العربية هو «غماء» البيت، أى ما يغطيه ويظله، ويسقف البيت أى يصنع له سقفا، ويقال إن السماء سقف على الأرض، والجمع منها سقف وسقوف.
***
قلت إن فى السقف متعة خاصة، يعرفها محترفو الشرود، الذين قضوا أوقاتا طوال، مستلقيين على ظهورهم؛ يحدقون فى خيالات وأشكال متداخلة وغريبة، صنعها الزمن بالجير المتداعى. يرون بينها حيوانات وطيورا ووجوها مألوفة قديمة، وأخرى تستجد بمرور الوقت، وبفعل عوامل التعرية المعهودة.
تشعب بنا الحوار واتخذ مسارا أقل تخييلا وأكثر جدية، حين تلفظ أحد الجالسين بعبارة قصيرة عن سقف الحرية؛ قال إن ثمة انخفاضا ملموسا، لا يتوقف عند حدود ولا يعترف بمنطق؛ سقف الكلام، سقف الكتابة، سقف الغناء، حتى سقف الاجتماع لتناول الطعام؛ قد أصابه داء الانخفاض. لم يستغرق الأمر سوى دقائق معدودة، كانت كافية ليصمت الجالسون جميعهم تقريبا، وفى الأجواء شعور بالاختناق، وكأن سقف البيت قد تدنى، وصار أقرب إلى الرؤوس مما كان.
شردت كعادتى وأنا أتذكر علاقتى السيئة بسقف معلق، له بلاطات رمادية كبيرة، انغرست فيها أضواء خافتة، متناثرة، باعثة على الكآبة. احتل هذا السقف مكان عمل ترددت عليه سنوات؛ كلما دخلت من بابه، شعرت بالسقف القريب؛ جاثما على الأنفاس، موشكا على السقوط، لا يحمى من هم أسفله بل يهددهم.
***
عدت إلى ذاك المكان فى زيارة عابرة لم يمض عليها إلا القليل، وعاودنى الشعور ذاته، حين وجدت السقف ماثلا فى مكانه. أخبرتنى الموظفة المسئولة أنها تأمل فى انتزاع السقف عند تنفيذ خطة التطوير القريبة. اندهشت؛ فقد اعتدت منها أن تدافع عن السقف، وأضوائه وبلاطاته وشكله الأنيق، رغم اختزاله لارتفاع الجدران، لكنها عاجلتنى بأن السقف أصبح مرتعا للحشرات، ثم أطلقت ضحكة كبيرة وهى تقول: «السقوف المنخفضة تسكنها الفئران».