عن اتهامات العداء للسامية فى السياسة الألمانية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن اتهامات العداء للسامية فى السياسة الألمانية

نشر فى : الجمعة 8 سبتمبر 2023 - 7:40 م | آخر تحديث : الجمعة 8 سبتمبر 2023 - 7:40 م
قبل أيام، انشغل الرأى العام الألمانى باتهامات بالعنصرية والعداء للسامية طالت نائب رئيس الوزراء فى ولاية بافاريا الجنوبية، هوبرت ايفانجر.

فقد نشرت صحيفة «زوددويتشه تسايتونج»، وهى صحيفة عريقة وذات معايير مهنية رفيعة وباع طويل فى التقارير الاستقصائية وتصنف سياسيا فى خانات اليسار، نصا مليئا من جهة بالمفردات العنصرية الموجهة ضد اليهود وحافلا من جهة أخرى بعبارات تنكر «الهولوكوست» (المحرقة التى قتل بها النازيون ملايين اليهود الألمان والأوروبيين فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين) وتسخر من ضحاياه، وقالت أن النص كتبه ايفانجر وهو تلميذ فى المرحلة الثانوية.

أرفقت الصحيفة نشر النص بتقارير استقصائية تناولت تفاصيل العقاب الذى أنزلته إدارة المدرسة الثانوية التى تعلم بها التلميذ ايفانجر حين اكتشفت مسئوليته، وذكريات بعض زملائه الذين صنفوه سياسيا كيمينى متطرف ومعادٍ للسامية، وآراء بعض من عملوا معه حزبيا فى الماضى وصدمتهم أفكاره العنصرية وابتعدوا عنه (ينتمى ايفانجر إلى حزب يدعى «حزب الناخبين الأحرار» ويشارك حاليا كشريك صغير فى الائتلاف الحاكم فى ولاية بافاريا). وطالبت الصحيفة اليسارية رئيس وزراء بافاريا ماركوس زودر، وهو ينتمى سياسيا إلى حزب يمين الوسط الحزب المسيحى الاجتماعى، بإقالة الرجل والانتصار سياسيا لرفض مشاركة أمثاله إن فى حكومات الولايات أو فى الحكومة الاتحادية فى ألمانيا.

• • •

رفض ايفانجر التعليق على حملة «زوددويتشه تسايتونج» فى البداية وتجاهلها. غير أن الاهتمام العام بالأمر والضغط المستمر من جانب صحافة اليسار باتجاه إقالته، دفع رئيس وزراء بافاريا زودر إلى دعوته لتوضيح علاقته بالنص القديم والحديث بصراحة عن موقفه من الماضى النازى وفيما خص حقوق المواطنات والمواطنين الألمان المنتمين دينيا إلى اليهودية وكذلك بشأن «النازية الجديدة» التى تنكر الهولوكوست ولا تعترف لا بوجود اليهود ولا من يدينون بالإسلام على أرض ألمانيا وترفض وجود الأشخاص المهاجرين واللاجئين.

هنا لم يستطع ايفانجر غير الرد العلنى على الاتهامات بإنكار كتابته للنص المعادى للسامية، وبالتشديد على إيمانه بمسئولية ألمانيا الأخلاقية عن جرائم النازية التى لا يمكن التنصل منها واحترامه الكامل لحقوق اليهود الألمان والتزامه بالقيم الإنسانية العليا التى تلزم بالعمل على المساواة الشاملة بين البشر وبرفض خطاب الكراهية وبمناهضة التمييز. وبعد الإنكار، خرج الشقيق الأكبر لايفانجر ليعترف بكونه صاحب النص القبيح ويعتذر عن ماضى أفكاره العنصرية ومن شقيقه على الحملة الصحفية الظالمة التى طالته وهو من النص المنشور براء.

• • •

أعقب ذلك إعلان رئيس وزراء بافاريا زودر الإبقاء على ايفانجر فى منصبه كنائب له والتمسك بالتحالف الحكومى مع حزبه. ومن ثم رفض برلمان الولاية بأغلبية أصوات حزب زودر (المسيحى الاجتماعى) وحزب ايفانجر (حزب الناخبين الأحرار) طلب سحب الثقة من «المتهم بمعاداة السامية» الذى تقدمت به أحزاب اليسار (الاشتراكى الديمقراطى والخضر) فى البرلمان. ومن بعد رفض الطلب، توقفت الحملة الصحفية وتراجع الاهتمام العام بالأمر.

• • •

ما يعنينى فى هذا السياق هو حال السياسة الألمانية كما تدلل عليه «قضية ايفانجر» والصعوبات الكثيرة التى تواجهها إلى اليوم فيما خص التعامل مع الماضى النازى ومع حاضر صعود القوى اليمينية الشعبوية.

وأجمل ملاحظاتى فى النقاط التالية:
١. حين يتعلق الأمر بالماضى النازى، يتوقف عقل السياسة الألمانية وتغيب الرشادة عن النقاش العام الذى يتحول إلى منصة لإطلاق الاتهامات وتشويه السمعة والمطالبة بالمحاسبة والعقاب دون أساس موضوعى. فحتى بافتراض أن هوبرت ايفانجر هو صاحب النص المعادى للسامية وأن قناعاته وهو تلميذ فى المرحلة الثانوية كانت عنصرية ومنكرة للهولوكوست، كيف يمكن لصحيفة يسارية ذات تقاليد عريقة أن تنكر هى عليه إمكانية تطور قناعاته وأفكاره بين عقد عمره الثانى وعقده السادس الذى هو به الآن؟ كيف يمكن محاسبته على نص قديم واتهامه اليوم بالعداء للسامية والمطالبة بإقالته من منصبه فى الحكومة، وهو نائب منتخب ويتمتع بمعدلات تأييد شعبى مرتفعة ولم يثبت عليه يوما منذ أن صار ممارسا للسياسة تبنى مواقف منكرة للهولوكوست أو مبررة لجرائم النازى أو متعاطفة مع النازيين الجدد؟

٢. لم تستقر أحزاب الوسط فى ألمانيا، يمينها ويسارها، على استراتيجية سياسية وإعلامية للتعامل مع صعود قوى اليمين الشعبوى، وإليها ينتمى حزب ايفانجر، وتمثيلها المتزايد فى برلمانات الولايات وفى البرلمان الاتحادى (فى الأخير، من خلال مقاعد حزب البديل لألمانيا). سياسيا، تراوح أحزاب اليمين بين قبول التعاون مع اليمين الشعبوى على مستوى الولايات لكون أحزابه التى صارت تحصد بين ١٠ و٢٠ بالمائة من مقاعد البرلمانات تستطيع ضمان أغلبيات مستقرة لليمين، وبين الرفض القاطع للتعاون على المستوى الاتحادى. فى المقابل، ترفض أحزاب اليسار أى اقتراب من اليمين الشعبوى وتواصل تصنيف أحزابه وسياسييه كقوى متطرفة ومضادة للديمقراطية. أما إعلاميا، فتخلط أحزاب اليمين واليسار بين رفض مقولات اليمين الشعبوى بشأن الحد من الهجرة واللجوء وهجوم سياسيين كايفانجر المتكرر على الاتحاد الأوروبى وبين اتهامات مرسلة وغير دقيقة لليمين الشعبوى بالعداء للسامية والتعاطف مع النازيين الجدد.

٣. ثمة فواصل حقيقية فى السياسة الألمانية بين اليمين الشعبوى المهموم بقضايا الهجرة واللجوء وبالدفاع عن حقوق الألمان (كما يراها) إزاء سطوة بيروقراطية الاتحاد الأوروبى والملتزم بالوسائل الديمقراطية فى العمل السياسى (المشاركة فى الانتخابات والحضور كمعارضة يمينية فى البرلمانات والانضمام إلى ائتلافات حاكمة حين تتاح الفرصة) وبين حركات وأحزاب النازية الجديدة التى تتبنى مقولات عنصرية وتتنصل من الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبها النازى فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين وتدعو إلى طرد اليهود ومن يدينون بالإسلام وعموم الأشخاص المهاجرين واللاجئين من ألمانيا ولا تمارس العمل السياسى الشرعى والسلمى، بل تتورط فى جرائم قتل وعنف مدفوعة بخطاب الكراهية ومساعٍ لإسقاط النظام الديمقراطى فى ألمانيا.
ثمة فواصل حقيقية بين اليمين الشعبوى وبين النازيين الجدد، دون أن يعنى ذلك قبول عموم الناخبات والناخبين الألمان لخطاب اليمين الشعبوى وتركيزه الأحادى على قضايا الهجرة واللجوء وأوروبا وإنكاره للدور الإيجابى للأشخاص المهاجرين واللاجئين وللاتحاد الأوروبى فى ضمان تقدم ألمانيا الاقتصادى ورفاهية مواطنيها ومواطناتها.

٤. تستخدم جماعات المصالح القريبة من اليمين الإسرائيلى الحاكم والحاضرة بقوة فى النقاش السياسى والإعلامى فى ألمانيا أمورا «كقضية ايفانجر» والاتهامات المرسلة بالعداء للسامية وإنكار الهولوكوست، تستخدمها فى الفضاء العام الألمانى لإسكات كل الأصوات الناقدة للسياسات الإسرائيلية الحالية تجاه الشعب الفلسطينى والتى لا يمكن توصيفها سوى كممارسات أبارتايد متكاملة المكونات وكذلك سياسات اليمين الذى يقوده بنيامين نتنياهو ويعمل اليوم على تفكيك ديمقراطية إسرائيل (وهى ديمقراطية منحت تاريخيا لمواطنيها ومواطناتها من اليهود وليس العرب) من خلال القضاء على ضمانات لرقابة والتوازن بين السلطات. فالحملة على ايفانجر والتى قادتها صحيفة «زوددويتشه تسايتونج» العريقة، دون تشكيك فى نوايا محررى الصحيفة، نتج عنها إسكات نقاش كان قد أطلق مؤخرا فى ألمانيا بشأن ضرورة التمييز بين التورط المرفوض فى العداء للسامية والعنصرية تجاه اليهود داخل وخارج إسرائيل وبين الرفض المشروع لسياسات الأبارتايد التى تطبقها حكومات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى وللممارسات غير الديمقراطية والمتطرفة لحكومة نتنياهو اليمينية وللقوى المتطرفة التى تمثل المستوطنين المغتصبين لأرض فلسطين. اليوم لا أثر على الإطلاق لذلك النقاش فى الصحافة الألمانية ولا فى الفضاء العام بعد أن نفذت بنجاح سياسة «اضرب المربوط»!.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات