القرارات الصعبة التى قررت الحكومة اتخاذها يوم الخميس الماضى، والتى وصفها البعض بعملية جراحية، وآخرون بإصلاحات مؤلمة، تخفى حقيقة مهمة أكثر إيلاما أن هناك قطارا يمضى فى طريق، يتباطأ حينا، ويتسارع أحيانا، لكن لا نعرف بالتحديد طبيعة ركابه. هذا هو الحال بالفعل. قرارات تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، والرفع الجزئى للدعم عن البنزين، وما قبلهما من قرارات زيادة فاتورة استهلاك الكهرباء، ورفع رسوم بعض الخدمات.. إلخ، كل ذلك من قرارات لا نعرف تحديدا تأثيرها على المواطن، لأننا لا نعرف ببساطة الخريطة الاجتماعية للمجتمع المصرى معرفة جيدة.
لا نعرف حجم الفقر، وعدد الفقراء. لا نعرف بدقة الفئات التى تستحق الدعم، أو شبكة الأمان الاجتماعى، والسبب أنه ليس لدينا معلومات دقيقة أو مسوح يمكن الاعتماد عليها، أو بحوث اجتماعية جادة، مثلما يحدث فى دول العالم المتقدم. وبالتالى فإن الحديث عن وصول الدعم لمستحقيه، شعار جميل يفتقر إلى آلية تحقيقه.
هل الفقراء هم من يسكنون العشوائيات؟ غير صحيح، هناك من بينهم فقراء، وهناك من بينهم بالمناسبة أغنياء لكنهم يفضلون لأسباب عديدة سكنى العشوائيات.
هل الذين يعملون فى القطاع غير الرسمى فقراء «أعنى كل من ليس مؤمنا عليه أو غير معروف نشاطه الاقتصادى»؟ بالطبع لا، هناك من يبحث عن قوت يومه، وهناك من هم أغنياء، يتكسبون دون أن يدفعوا ضرائب أو خلافه، ويقدر البعض تعدادهم بما يزيد عن ستة ملايين شخص.
هل أصحاب الدخول الثابتة «مثل موظفى الدولة» فقراء جدد بالمعنى الاقتصادى الاجتماعى؟ الظاهر نعم، لكن لا نعرف على وجه اليقين «البروفيل الاجتماعى» الخاص بهم من حيث ما قد يمتلكون من ثروات أو ممتلكات أو ما شابه.
المسألة تبدو معقدة، واتخاذ قرارات عامة دون قاعدة بيانات دقيقة قد تصيب البعض سلبا فى حياتهم المباشرة، ولا يستطيعون تدبير أحوالهم. لا معنى لدعم شخص غير مستحق، ولكن أيضا من عدم العدالة نزع مظلة الرعاية الاجتماعية عن شخص يستحق.
القضية هى البيانات، والإحصاءات، والدراسات الاجتماعية التى يمكن الركون عليها فى تحديد الخريطة الاجتماعية، وبالتالى اتخاذ السياسات والقرارات التى تضع المال العام فى مكانه الطبيعى، ونرى مردودا له على أرض الواقع. وهو ما يحملنا إلى اشتراطات كثيرة، أهمها: أن يكون هناك جهاز دولة فاعل كفء، مثلما هو الحال فى دول أخرى يرصد ويحدث البيانات، ويصل بها إلى الشخص المستحق، وأيضا يكون هناك بحث اجتماعى جيد يرصد الظواهر الجديدة، ويتتبع بدقة التغيرات التى تطرأ على النظام الاجتماعى، والتحولات فى القيم عند المصريين، وأخيرا، يكون هناك مواطن مشارك فاعل، مثلما حدث فى تجار التنمية الناجحة من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا، شريكا فى صنع السياسات، معاونا فى تطبيقها، رقيبا على نتائجها.
من حق الناس أن تتساءل، وتقلق، ويعتريها الغضب، لأنها لا تعرف، ولا تشارك، وتجد نفسها دائما فى موقع «المفعول به»، ومما يزيد من حيرتها التصريحات المتضاربة التى تصدر عن لسان المسئولين، والوعود الفضفاضة، وغياب الشفافية، بينما يجدون الواقع يتغير من حولهم، ولعل آخرها كلام وزير الصحة أن أسعار الأدوية لن تتأثر بتحرير سعر الصرف، هل هذا ممكن أو حتى معقول؟