على غرار خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا المدمرة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، أطلق الرئيس جو بايدن فى حملته الانتخابية وعشية توليه الرئاسة الأمريكية، خطة متعددة المحاور لما أطلق عليه «إعادة البناء بشكل أفضل». الخطة التى نجح الديمقراطيون منذ أيام فى تمرير أحد أهم أركانها من الكونجرس، والمتعلق بتشريع خاص بالبنية الأساسية للبلاد، قوامها فى الأصل ثلاثة أركان. أولها يتعلق بخطة إنقاذ تتضمن حزمة عاجلة للتغلّب على آثار جائحة كوفيدــ19، وثانيها يتعلّق بخلق الوظائف (متصل أيضا بإعادة إصلاح البنية الأساسية)، وثالثها للأسر الأمريكية، بالتركيز على التعليم ورعاية الأطفال.
قانون البنية الأساسية الذى عبر مجلس النواب بأغلبية 228 صوتا مقابل 206، وقد صوّت له من الجمهوريين 13 نائبا وصوّت ضده من الديمقراطيين 6 نواب، محمّل بفاتورة ضخمة بلغت 1.2 تريليون دولار، لذا فكان من الضرورى أن يصدر بتراضٍ من الحزبين فيما يعرف بكونه ثنائى الحزبية bipartisan، خاصة أنه من النوع الذى يصدر مرة كل جيل (على حد وصف الرئيس الأمريكى نفسه فى معرض الدفاع عنه) وأن آثاره تمتد لأجيال متعاقبة، ولا يصح أن ترحّل للمستقبل فاتورة قرارات اتخذت فى لحظة زمنية تتميز بالاستقطاب والانقسام الوطنى.
الرئيس الأمريكى يطمع بخطته الأم لإعادة البناء إلى ما هو أكبر من تحقيق انتصارات سياسية حزبية أو شخصية، هو يحاول أن يؤسس منظومة كاملة يمكنها الصمود أمام التمدد الاقتصادى المقلق للمنافس الصينى، خاصة بعد إطلاق الصين لمبادرة الحزام والطريق والتى تعطى للصين سيطرة شبه حصرية على حركة التجارة العالمية. فالنموذج الاقتصادى والسياسى الذى نشأت عليه الولايات المتحدة يتغذى باستمرار على حالة نشطة من التنافسية، فإن لم تجد الدولة منافسا ندا فإنها تصنعه صناعة بأدواتها الإعلامية لو اقتضى الأمر.
كذلك أحسب أن الرئيس الأمريكى قد تبنى النموذج الكينزى لخلق الطلب الفعال من خلال مزيد من الإنفاق الحكومى على أوجه الإنفاق الاستثمارى العام التى يعزف عنها القطاع الخاص. تطوير شبكات الطرق والمياه والكهرباء والبنية الصناعية ووسائل النقل العام وتحديث وترميم آلاف الكبارى والتحوّل إلى بدائل النقل الأخضر المستدام وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى... كل ذلك من شأنه توفير ملايين فرص العمل فى المدى القصير، ووقف موجة الركود التضخمى التى بدأت بالفعل فى الانتشار شرقا وغربا.
•••
ولا يمكن فهم خطة «بايدن» لمواجهة مخاوف مرحلة الشيخوخة التى بدأت ريشتها تعبث بقسمات وجه الولايات المتحدة الأمريكية إلا باستيعاب دعامتى قانون البنية الأساسية. الدعامة الأولى هى إقامة بنية اقتصادية لا تستنزف البيئة بذات المعدّل المخيف الذى تنحدر به البشرية إلى تغير مهلك فى المناخ. والدعامة الثانية هى توفير أكبر قدر من فرص العمل التى تؤدى بالضرورة إلى حفز الطلب المدعوم بالقوى الشرائية. كذلك لا يمكن فهم السبب الحقيقى لتعثر تلك الخطة فى مسار تمريرها بالكونجرس الأمريكى إلا بالتعرف على البدائل المطروحة لتمويل مستهدفات الخطة. وبشكل عام يؤسس الديمقراطيون خطتهم على الإصلاح الضريبى الرامى إلى زيادة الحصيلة الضريبية بنحو تريليون دولار خلال 15 عاما قادمة. وإعادة توزيع الأعباء الضريبية على نحو يحقق قدرا أكبر من العدالة. أما مدار الممانعة لخطط بايدن الاقتصادية كلها، فلكونها تفرض أعباءً ضريبية جديدة على الشركات، وتزيد من تراكم الدين العام الذى أوشك أن يدخل الحكومة الأمريكية فى مرحلة إغلاق جديدة بعد بلوغ سقفه الأعلى.
المخاطر كثيرة جدا أمام صانع القرار الأمريكى لدى الإقدام على تحويل خطط إعادة البناء إلى واقع على الأرض. لكن أصعب ما فى هذه المخاطر أنها تنشأ من تحويل عناصر القوة التقليدية للولايات المتحدة إلى عناصر تهديد مباشرة. فمن عناصر القوة الأمريكية التقليدية اعتماد الاقتصاد على مصادر الوقود الأحفورى فى تغذية النمو وتحقيق الفوائض، معتمدة فى ذلك على احتياطى كبير من النفط ومشتقاته، وعلى تكنولوجيا إنتاجية لا يمكنها أن تتخلى بين عشية وضحاها عن مصادر طاقتها لصالح مصادر مستدامة أعلى تكلفة وأقل مواكبة لاحتياجات التشغيل. فالتحول إلى المركبات الكهربائية ــ مثلا ــ والتى لا يمثّل المسير منها على الطرق الأمريكية أكثر من 2% من إجمالى المركبات، لن يتحقق فقط بتوفير احتياجات البنية الأساسية من شبكات ومحطات الشحن، ولكن بتغير مفصلى فى تكنولوجيا الإنتاج وأذواق المستهلكين، يمر بمرحلة تحوّل قد تضيع خلالها المزايا التنافسية لعدد من الصناعات الأمريكية فى سلسلة إمداد صناعة السيارات. ناهيك عن الضرر المباشر للصناعات الاستخراجية والصناعات المرتبطة بنقل وتعبئة وتوزيع مشتقات النفط.
كذلك فإن الوضع التنافسى للشركات الأمريكية فى مختلف القطاعات يواجه بالفعل صعوبات كثيرة نتيجة للمنافسة مع الصين التى لديها فائض فى قوى العمل الرخيص نسبيا، ولديها سوق محلية عظمى لتصريف منتجاتها النهائية والوسيطة دون مشقة. فإذا ما واجهت تلك الشركات أعباءً ضريبية مستحدثة لا تقابلها مزايا وحوافز جديدة فإنها تصبح أكثر عرضة للإفلاس والتعثّر. وهذا مصدر آخر لقوة الاقتصاد الأمريكى يتحول إلى مصدر تهديد بفعل خطط بايدن لإعادة البناء.
أخيرا فإن الاقتصاد الأمريكى الذى يملك عملة الاحتياطى العالمى منذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944 هو اقتصاد قوامه تراكم الديون، فكل دولار يصدر يمثل مديونية على مصدره، وكذا تمثّل أذون الخزانة الأمريكية أهم مكوّن لاحتياطيات البنوك المركزية حول العالم، ناهيك عن الدور الفاعل للنظام المصرفى الأمريكى فى خلق الائتمان وتمويل عجلة التنمية بالداخل الأمريكى. من هنا كانت تلك المديونية عنصر قوة كبير للاقتصاد، لكن زيادتها عن السقف الائتمانى المسموح به، يمثّل تهديدا لاستقرار الدولة واستدامة النظام الاقتصادى كله. من ثم فإن خطط إعادة البناء وفاتورتها التى يمكن أن تبلغ (حال إجازتها كلها) ما يقرب من 4 تريليونات دولار أمريكى، أصبحت تشكل تهديدا مباشرا لاستدامة الاقتصاد وملاءته، وقدرة الخزانة العامة للدولة على سداد التزامات خدمة الديون، إذا ما تم تمويل الجانب الأكبر من تلك الخطط بطباعة البنكنوت وبإصدار مفرط لسندات وأذون الخزانة.
•••
تلك هى المعضلة الحقيقية التى يجب أن تتصدى لها بنوك الأفكار الأمريكية لدى مناقشة خطة إعادة البناء، بعيدا عن الاستقطاب والحزبية والسعى خلف مكاسب حاضرة بضغط من مخاطر آنية عابرة دون إدراك لسلسلة التهديدات التى قد تتحوّل إلى أزمات ضاغطة خلال مرحلة التحوّل الشاملة، حتى وإن كان ذلك التحوّل المنشود أكثر استدامة وأقل إضرارا بالبيئة.
الانتخابات الأمريكية الأخيرة كانت كاشفة ومعبّرة عن انقسامات مربكة فى الداخل الأمريكى، وعن تحوّل الكثير من المسلّمات فى العقيدة الاقتصادية الأمريكية الرأسمالية إلى موضوع للخلاف، ظهر فيه جليا عجز النظرية النيوكلاسيكية عن إقامة نموذج موفّق لتوزيع الدخول والثروات، هى فقط نظرية تحقق النمو وتراكم الثروة بلا حدود! من هنا كان من الضرورى أن ينتظر صانع القرار الأمريكى فرصة سانحة لسن وتمرير أية تشريعات جوهرية من شأنها إحداث تغييرات هيكلية فى الاقتصاد وفى المجتمع الأمريكى والدولى بشكل عام. فمن السهل مع حالة الاستقطاب القائمة اليوم فى الولايات المتحدة أن يجد الجمهوريون فى أى تعثّر أو تهديد مرتقب لتداعيات خطط إعادة البناء، فرصة للإطاحة بالحزب الديمقراطى من سدة الرئاسة، ومن أى سيطرة على المجلسين، ومازالت خطة الرعاية الصحية لأوباما (التى كان بايدن حاضرا فيها كنائب للرئيس) وما واجهته من مقاومة وإفشال فى عهد الرئيس السابق «ترامب» مثالا حيا على عجز البرامج التنموية الكبرى عن الصمود بغير توافق مجتمعى شبه تام.