كنت أبحث عن بداية ما للأسطر القادمة وأتخوف من الوقع الرتيب على القراء لمقدمة تقليدية تتناول أسباب ونتائج الحرائق العديدة التى توالى اشتعالها فى منطقة الشرق الأوسط منذ ١٩٤٨ وباعدت بين شعوبه وبين أحلام التنمية والاستقرار والأمن لكى آتى منها إلى الحرب الراهنة على غزة ولبنان التى تقف شاهدة على انهيار فرص السلام الإقليمى وعجز المجتمع الدولى بمنظمته الدولية الأمم المتحدة وبقواه الكبرى عن التدخل الفعال لوضع حد لخرائط الدماء والدمار التى صارت تغطى مساحات واسعة من المنطقة.
وعندما تملكنى اليأس من العثور على مقدمة شيقة وسأمت المطالعة المتكررة للمادة البحثية التى جمعتها تمهيدا لهذا المقال وجدتنى أبتعد عن الأمر برمته وأنحى العلوم السياسية جانبا وأذهب إلى كتابات أديبى المفضل، نجيب محفوظ، لأعيد قراءة ما يتيسر لى منها على كثير إبداعه وكعهدى به دوما يخرج عقلى من ثباته أو يساقط عليه من صوره الملهمة وتشبيهاته الثاقبة وأفكاره المتقدة ما قد يهدينى إلى كلمات بداية مناسبة وجذابة. وجدتنى أعود إلى آخر ما خط الراحل العظيم «أحلام فترة النقاهة» (٢٠٠٤) و«أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة» (٢٠١٥) وأعثر بها على ضالتى لدى من عاصر تحولات مصر والشرق الأوسط طوال القرن العشرين وآمن بالسلام العادل كحل وحيد للصراعات الدموية والمدمرة التى لم تغادر ديارنا أبدا.
• • •
عثرت على ضالتى من بين «الأحلام الأخيرة» حيث يسجل محفوظ فى الحلم رقم ٣٨٦ ما يلى؛ «وجدتنى ضابطا احتياطيا فى الفرقة المكلفة بحماية الجسور والأماكن الهامة عند اندلاع الحرب، وهاجمتنا طائرات العدو وأخذت تزلزل الأرض بقنابلها، وأصابت قوة الدفاع إحدى طائرات العدو فأهلكت من فى الطائرة إلا واحدا تمكن من الهبوط بالبراشوت فاعتقلناه، وتبين لنا أنه الذى كان أستاذنا فى اللغة الإنجليزية وآدابها، فأكرمناه، وراح يحدثنا عن الحروب فى الآداب المختلفة وكيف اندلعت لحل مشكلات ولكنها زادتها تعقيدا، وختم كلامه بقوله: «العدل هو الحل!»
هو العدل، إذا، الذى جاء ذكره فى «الحلم المحفوظى» على لسان عدو أيقن بعد اندلاع الحرب أنه الحل الوحيد للمشكلات والأزمات. هو العدل، إذا، الذى سبب غيابه حرائق منطقة الشرق الأوسط المشتعلة منذ ١٩٤٨ والتى أتت على التنمية والاستقرار والأمن حتى صرنا فى المرحلة الراهنة سكان المنطقة ذات العدد الأكبر من الحروب والصراعات المسلحة والنزاعات الأهلية العنيفة، وذات العدد الأكبر من النازحين والمهجرين واللاجئين نسبة إلى إجمالى سكانها، وذات العدد الأكبر من الميليشيات العسكرية وعصابات الإرهاب الخارجة عن سيطرة الدول والحكومات الشرعية، وذات العدد الأكبر من أعمال القتل والعنف والتدمير التى تثير شبهات جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وكان مصدرها فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ حركة حماس ومنذ ٨ أكتوبر ٢٠٢٣ الحكومة الإسرائيلية، وذات نظام الفصل العنصرى الوحيد فى عالم اليوم والتى ما زالت دولة إسرائيل تفرضه على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
• • •
فما الذى غيب العدل عن الشرق الأوسط وأوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم على الرغم من ثروات منطقتنا البشرية والطبيعية وعمقها الحضارى وتنوعها الثقافى؟ كيف انهارت فرص السلام الإقليمى وعجز المجتمع الدولى عن وضع نهاية لحرب مستعرة منذ أكثر من عام أكلت الأخضر واليابس فى غزة ولبنان ولم تتوقف عند حدودهما؟ كيف يقبل الضمير الإنسانى ممثلا فى الأمم المتحدة أن تمنع الحكومة الإسرائيلية دخول مساعدات إنسانية وطبية كافية إلى الفلسطينيين دافعة بهم إلى حافة المجاعة وانعدام الأمن الصحى وأن تمارس تجاههم وتجاه المدنيين فى لبنان قتلا على المشاع ولا يصدر عن مجلس الأمن الأممى (الجهة الموكول إليها حفظ السلم والأمن العالميين) قرار ملزم واحد يقضى بإيقاف كل هذه الجرائم؟ ما الذى صنع من أغلبية الشعب الإسرائيلى أغلبية تتراوح بين الموافقة أو عدم الاعتراض على الجرائم التى ترتكبها حكومتها وتقبل باسم الأمن، وهو ادعاء مراوغ، كل هذه الدماء وذلك الدمار وتلك العنصرية؟ كيف تجاهلت إدارة بايدن - هاريس فى الولايات المتحدة الأمريكية والتى رفضت الأغلبية التجديد لها بإسقاط هاريس فى انتخابات ٢٠٢٤ وإعادة ترامب إلى البيت الأبيض، ومعها عديد الحكومات الغربية، إيقاف إمدادات السلاح والذخيرة وأنواع الدعم المالى والاقتصادى المقدمة لإسرائيل وما يقرب من خمسين ألفا من الفلسطينيين وآلاف اللبنانيين قضوا نحبهم وأمن الشرق الأوسط يتهاوى من درك أسفل إلى درك أسفل آخر على وقع ما صار حرب استنزاف إقليمية جديدة؟
• • •
وعلى الرغم من أن كافة هذه التساؤلات يمكن الإجابة عليها تفصيلا باستدعاء ملاحظات كثيرة عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية فى دول المنطقة وطبيعة حكوماتها وتنوع تحالفاتها مع الدول الخارجية وفى مقدمتها القوى الكبرى كالولايات المتحدة والصين وأوروبا وروسيا وتباين المصالح الحيوية «للأربعة الكبار» وتغليبهم لمقتضيات حماية المصالح على اعتبارات الضمير الإنسانى، يظل الأهم فى هذه الأسطر هو إظهار الخيط التحليلى الناظم بين التفاصيل والملاحظات ألا وهو أن خلاص الشرق الأوسط من حرائقه المشتعلة لم ولن تأتى به أفعال القوى الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية فى أكثر من محاولة فى النصف الثانى من القرن العشرين) ولا إرادة منفردة تمارسها دولة مؤثرة (مصر والسعودية فى عقود سابقة وجنون المغامرات العسكرية العراقية والإيرانية والإسرائيلية والتركية المتكررة)، بل يتمثل سبيله الوحيد فى التنسيق الإقليمى بين جميع الدول المؤثرة بغية بناء منظومة متكاملة للأمن والتعاون والرخاء المشترك على غرار منظمة الأمن والتعاون الأوروبى التى أسست فى ١٩٧٥ ومكنت القارة العجوز من تجاوز الانقسام الحاد آنذاك بين دول الشرق الشيوعية ودول الغرب الرأسمالية وحالت دون نشوب حروب بينهم طوال الفترة الممتدة بين ١٩٧٥ و١٩٨٩ (انهيار المعسكر الشيوعى).
لا خلاص للشرق الأوسط من حرائقه المشتعلة حروبا وصراعات مسلحة ونزاعات أهلية سوى بهيئة للأمن والتعاون الإقليمى تستند إلى مبادئ السلام واحترام السيادة وحسن الجوار والامتناع عن التدخل فى شئون الغير وحماية كيان الدولة الوطنية ورفض وجود الميليشيات وحركات اللا - دولة وكذلك رفض سباقات التسلح وانتشار سلاح الدمار الشامل، وتقر الحق فى تقرير المصير للشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة وفى الأمن لإسرائيل وفى العيش المشترك دون عنف فى سوريا ولبنان واليمن والسودان وليبيا، وتؤسس لعلاقات اقتصادية وتجارية وثقافية ودبلوماسية طبيعية بين كافة دول وشعوب الشرق الأوسط طالما التزمت الحكومات بالمبادئ المعلنة ولم تحد عنها فى أفعالها وأعمالها.
ليست هذه دعوة لفك الارتباط بين الشرق الأوسط وبين القوى الكبرى، ولا للتنكر للتحالفات الهامة بين بعض دول المنطقة وبين الكبار. بل هى، وقبل أى شىء آخر، محاولة لجعل نقاط الارتكاز والانطلاق فى التعامل مع ما نحن فيه هى نحن شعوب ودول وحكومات ومجتمعات مدنية وتحميلنا للمسئولية الجماعية عن أحوالنا وتحفيزنا على توظيف كل ما لدينا بما فيه علاقاتنا مع الخارج لتجاوز صراعاتنا وخلافاتنا (بين فلسطين وإسرائيل، بين إيران وإسرائيل، بين إيران والخليج، بين لبنان وإسرائيل، بين الجزائر والمغرب، وبين القوى المتناحرة داخل بعض الدول) ومن ثم الخلاص من الحروب والمشكلات والأزمات وسباقات التسلح التى تراكمت وأشعلت المنطقة وأرهقت كل أهلها باستعادة العدل الغائب.