جلسة طويلة فى أحد الأماكن العامة، خصصتها للكتابة، لكننى سرعان ما تركت الأوراق والقلم، ورحت أستمع إلى الناس من حولى، بعد أن علت الأصوات وتشابكت.
كان الأمر غريباً بحق، فالحوار واحد لا يتغير حول غالبية الموائد، الكلمات نفسها والتعبيرات نفسها، وقد تشابهت التعليقات والآراء إلى حد كبير.
•••
لم تخرج المواضيع المطروحة عن الضيق والأسف لأحوال البلد، والأجواء المضطربة التى تموج بها. المدهش أن الغالبية العظمى من المتكلمين، وهى من كبار السن، اتفقت على عدم الرضاء عن شكل الحكم الحالى، البعض هاجم الرئيس مباشرة لعدم تخليه عن انتمائه العشائرى الضيق، والبعض انتقد عدداً من تصرفاته وقراراته الاستئثارية بالسلطة، خاصة الأخير منها، مع ذلك ورغم المعارضة الواضحة له، المبنية على هذا السبب أو ذاك، أجمع المتحادثون على غياب البديل، القادر على بث الحماسة فيهم، ودفعهم إلى رفع رايات الشجب والعصيان، والنزول إلى الشارع مع النازلين. نال مرشحو الرئاسة السابقون ما نالوا من اعتراضات خلال الحديث، كلٌ حسبما صوره الإعلام وقدمه إلى الناس، فهناك المتفرنج وهناك الكافر وهناك الفلول، ولم يحز أحدهم على إجماع أو حتى شبه إجماع أو مجرد تأييد من عدد مقبول من الجالسين. كانت الحوارات تُختَتَمُ بجملة واحدة: «بس لو فيه حد الواحد يقدر يقول عليه هو ده اللى ينفع يحكم البلد»، غاب البطل الذى لا خلاف عليه عن المشهد تماماً.
فى نظر هؤلاء، فشل الموجودون على الساحة، وأولهم الرئيس مرسى فى أن يكون البطل الذى انتظروه، وربما لو ظل ثابتاً فى مكانه دون أن يحقق شيئاً، لأمكن الصبر والانتظار، ولأوجد الناس الأعذار وصدقوها كما اعتادوا، لكنه تحرك وتصرف وحقق لنفسه الرفض، واستعدى من الناس شرائح، وأصاب بتجاهله أخرى.
•••
أعترف قبل أن أُجْبَر على الاعتراف، بأن من مكثت أستمع إليهم لا يمثلون نموذجاً مصغراً من المجتمع بأكمله، هذا صحيح، لكنهم فى الوقت ذاته جزء متفاعل وحيوى منه، وهم كذلك غير منتظمين فى كيان قد يجعل آراءهم متماثلة، لا حزب ولا حركة ولا ائتلاف، وربما ينتمى بعضهم إلى الكنبة التى نالت حظاً وافراً من الاستهزاء، كما لا تجمعهم الخصائص المعيشية ذاتها؛ لا من حيث المهنة ولا الدراسة ولا حتى المستوى الاجتماعى والاقتصادى، فقط جمعتهم مناضد متقاربة، وجلسة فى مكان مفتوح وسط الهواء الطلق، ومشروبات بحفنة من الجنيهات، مواطنات مصريات ومواطنون.
•••
ظهر على مر العصور أبطال وعظماء لا أول لهم ولا آخر، منهم من قاد وطنه إلى الحرية، ومنهم من دافع عن المضطهدين وانتصر لهم، ومنهم من قاوم الظلم وفاز أو حتى هُزِمَ، لكنه بقى فى أذهان الناس بطل. تتوالى دورات التاريخ، وكلما احتدمت الأمور وتكاثرت المحن والشدائد، استدار الناس فوراً للبحث عمن ينقذهم، فإن وجدوا بطلاً حقيقياً التفوا حوله ورفعوه إلى عنان السماء، وإن لم يجدوا صنعوه حتى ولو بالزيف وساروا وراءه، وإذا سقط بحثوا عن غيره فوراً. هى نزعة بشرية لا تتوارى بمرور الوقت، مهما تغيرت الأفكار، وتطورت حركة الشعوب ونضجت وصارت أكثر جماعية وعقلانية، لا يكف أبداً الناس عن التفتيش عن البطل المُخَلِّص، ولا عن استلهام البطولة.
•••
تحفل كتب التاريخ بسير هؤلاء وهؤلاء، الزائفين والحقيقيين، صانعى المجد والمصنوعين، وتخبرنا بعض المرويات والأساطير؛ أنه كلما تعاظم الوهم المحيط بأبطال الزيف، وكلما نُسِبَت إليهم أشياءٌ خيالية لا منطقية، كلما زاد إيمان بعض الناس بهم، أبسط الصور دلالة على هذا، تلك التى نراها مع من يطلَقُ عليهم الأولياء وأصحاب الكرامات، وهم بمثابة أبطال من نوع خاص لدى مريديهم. سقط كثيرون بعد انكشاف حقيقتهم، وفى النهاية يظل الأمر متروكاً لحصافة الناس وبصيرتهم: بمن يصدقون ومن يتبعون، وبماذا يؤمنون.
•••
قبل أن أترك المكان سمعت رجلاً فى العقد السادس من العمر يمسك بهاتفه المحمول، ويهدد محدثه على الناحية الأخرى قائلاً: «لو مش جاى تصلى، جماعة الإخوان هاتمسكك.. مش خايف ولا إيه؟»، فى الوقت ذاته تقريباً وصلت سيدة عجوز ألقت السلام على صديقتها واتخذت مقعداً سائلة «هم بقية الجماعة هايوصلوا الساعة كام؟.. ولا بلاش نقول ’الجماعة’ اليومين دول أحسن»!. لقد حَلَّ الخوفُ من القادم مَحَلَّ البهجة بما تحقق، لم يظهر البطل ليلتف حوله الناس، لا منقذ فى صدر المشهد، بل عدد من الداعين إلى سفك للدماء، مع ذلك أصدق أنه سوف يخرج من رحم النضال الحقيقى فى مواجهة الإظلام، ألف بطل وبطل.