في أحد الأحياء التي طالما وُصِفت بالراقية الأرستقراطية، سَارع الرّجل خطوَه ثم لم يلبث أن أبطأ قليلا حين لمح علبةً ورقيّة مُربّعة، مَلقية بإهمال على سور منشأة قديمة. توقّف لحظة ثم مدّ يدَه فالتقط منها نصف سندوتش من خُبز الفينو المستدير، وقد بدا بحال جيدة. مضى في طريقه من جديد وهو يَقضم غنيمته بشهيّة، وقبل أن ينتهي منها؛ استدار عائدا فنَكَش في العلبة التي لم تكن خاوية تماما، وتناول ما بقي من فُتات ثم حملها معه.
• • •
لم يعد النَّكشُ في كومات القمامة من المشاهد التي تستدعي الدّهشة أو التوقّف أمامها، أو التي تستوجب إبداء شيء من الأسف والأسى؛ إذ تحوّل الأمر إلى سلوك عاديّ، يراه الرائح والغادي فلا يلفت نظره ولا يجرح مَشاعره.
• • •
يأتي الفعل نَكَش في مَعاجم اللغة العربيّة بمعنى بحثَ وفتّش، الفاعلُ ناكشٌ والمَفعول به مَنكوش، والمَصدر هو النكْش؛ فإذا قيل نَكشَ الأرضَ كان القصد أنه حفرَها ليستخرج ما فيها، والمِنكاشُ آلةٌ تحمل رأسا مثل الشّوكة وأخرى مُدبّبة دقيقة، وتُستخدم في تقليب التراب والطين وإخراجهما بمقدار ضئيل لتهوية النباتات المَزروعة، كما تفيد في تنقية التّربة من الحشائش غير المرغوبة.
للفعل نَكَش استخدامات أخرى؛ فإن وُصِفت بئرٌ بأنها لا تُنكَش؛ كان المعنى أن ماءها كثير لا يجف، وإن لحق الوصف بإنسان؛ كان دلالة على كَرَمه وخيره الذي لا ينضُب.
• • •
نَكْش الشّعر وجعله أشعث مُبعثرا حول الرأس في غير ترتيب؛ لا يمثل فقط صيحة تنتشر وتخبو من آن لآخر؛ لكنه أيضا موروثٌ شعبيٌّ قديم، يُعبر عن حال مِن الغضب أو الحزن، فإن نَكَشت امرأة شعرها وتعمّدت أن يراها الناس على هيئتها هذه؛ كان القصد إعلانَ مشاعرها إزاء موقف ما؛ دون أن تُفصح عنه بالكلمات. لا ينفرد نكش الشّعر بالتعبير عن صاحبه؛ فللقصّ والتقصيرِ أيضا معانٍ؛ منها إبداء الإذعان والطاعة لسُلطة أعلى؛ مثلما يحدث لدى انضمام الفرد إلى جيش من الجيوش النظامية.
• • •
لطالما سمعنا أمهاتنا يشكوَنّ من الحجرة المنكوشة التي لم تعرف يوما النظام. يطلبن ترتيبها مرة وعشرا؛ فلا يجدن استجابة مُرضية، ولا تصادفهن سوى ملابسُ مَلقيةٌ على الأسِرّة، وكُتبٌ راقدةٌ فوق الأرض، وأحذيةٌ مُتباعدةٌ مُشتتة، وجوارب مُنفردةٌ لا أزواج لها، أما الأكواب وآثار الأكلات الخفيفة العابرة فحدث ولا حَرج؛ إذ تستقر في كل مكان وتحتلّ الفراغات المُتبقية. اعتدت أن أنكُش المكان الذي أعمل فيه وأن أضع بين جدرانه كمًا هائلا من الأوراق والكُّتب، أحاول أن أجعلها في صورة مَقبولة؛ لكنها تتناثر هنا وهناك ما أن أتناول بعضها، وأنخرط في قراءة وبَحث وتنقيب، ورغم فَشل حملات الترتيب جميعها؛ لا أكفّ عن المُحاولة بين الحين والآخر.
• • •
نَكْشُ الدّجاجة هو حفرها في الأرض بأظفارها المُدبّبة التي تترك أثرا رقيقا رفيعا؛ وإذ جرى العرف على وَصف خطّ يدّ الطبيب بأنه نَكشُ فراخ؛ فدلالة على مَبلغ سوئه وتعذّر قراءته؛ لا يتمكّن من فك طلاسمه وتفسيره سوى الصيدلانيّ الذي تدرّب بطبيعة عمله على استنتاج المكتوب، وخَبَر النقْشَ والنَكْشَ وأدرك المراد، والحقّ ألا مَفرّ من الاعتراف برداءة خط أغلب الأطبّاء؛ لكن العذر أن مُعظمهم قد اكتسبه على مر السنين؛ فمن اختبارات ورقيّة مُطوّلة، تستدعي سُرعة هائلة في الإجابة للتغلّب على ضيق الوقت، إلى كثرة المَعلومات المُتزاحمة في الرأس والمُتصارعة على الخروج منه قبل أن تُفلتها الذاكرة، إلى حال من الزّهق تقلصُ براحَ الكتابة المتأنية وتَعصف بأيّ نيّة للتروي والتنميق؛ لتصبح الوصفةُ العلاجية في نهاية المشوار لغزا يبحث عن حلّ.
• • •
أحيانًا ما يتعمّد الواحد أن يُداعب صاحبه ويتخابث معه، وربما ينكُشه بما يستفز ويستثير. بعض المرّات ينقلب المزاح إلى جَدّ ويغدو النَّكشُ البريء فعلا جالبا للمُشادة والعِراك. قد يَسكت المرء عما يؤرقه ويصمت متجنبا إثارة لغط أو جَدَل لا يرغب فيه؛ فإن حاول آخرٌ أن يخرق صمته وأن يستحثّه على الحديث، نصحه الآخرون بألا ينكُشه وأن يتركه لحاله؛ فالتحريض والتمادي قد يخلقان موقفا عنيفا بلا ضرورة.
• • •
إذا عسّ شخصٌ حول آخر، وسعى إلى معرفة ما يُبطن وما يُخفي عن الأعين، وإذا نقّب في أسراره واستخرج منها ما يدينه بصورة ما أو يوقعه في شرّ أعماله؛ قيل إنه يَنكشُ وراءه. نَكشَ المسئولون وراء الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، واستخرجوا ما زجّ به مُتهما في عديد القضايا؛ منها وقائع مُهاجمة البيت الأبيض، ونَكَش آخرون وراء فنانين وفنانات واستخرجوا أسرار زواج وأبناء ونشروها على الناس، والحقّ أن إخفاء الحقائق على المدى الطويل صعب عسير.