طوال الأسابيع الثقيلة الماضية للحرب فى غزة تردد السؤال عن أحوال المجتمع الفلسطينى داخل إسرائيل، أى داخل حدود ١٩٤٨، وعن موقفه مما يتعرض له الفلسطينيون والفلسطينيات فى القطاع وأيضا فى الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين. تواترت أيضا تساؤلات بشأن أسباب عزوف المجتمع الفلسطينى فى الداخل عن الاحتجاج على الحرب والعنف اللذين تمارسهما الحكومة الإسرائيلية والمستوطنون المتطرفون.
التقيت على مدار اليومين الماضيين فى العاصمة الأردنية عمان، وذلك فى إطار ورشة بحثية نظمها كل من معهد السياسة والمجتمع فى الجامعة الأردنية وبرنامج الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيجى للسلام الدولى حول التداعيات المحلية للحرب فى فلسطين وإسرائيل وتداعياتها فى مصر والأردن ولبنان وسوريا، التقيت بعدد من المحامين والباحثين والسياسيين القادمين من المدن ذات الكثافة السكانية الفلسطينية المرتفعة كحيفا ويافا والناصرة والذين فصلوا فى شرح مواقفهم مما يدور ورؤيتهم للمستقبل.
• • •
فيما خص غياب احتجاجات فلسطينيى ١٩٤٨ منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، أشار البعض إلى أن الحكومة الإسرائيلية تطبق العديد من الإجراءات التعسفية كالاعتقال الإدارى للمحتجين واتخاذ إجراءات قانونية عقابية بحقهم وفصلهم عن أعمالهم تارة وإيقافهم تارة أخرى. كما أشار البعض الآخر إلى الضغوط المتزايدة التى يتعرضون لها من قبل المجتمع اليهودى داخل إسرائيل الذى صار إما يتخوف من المجتمع الفلسطينى ويتوقع منه اعتداءات وعنف أو يبتعد عنه بالكامل، وفى الحالتين تُشن حملات كراهية ممنهجة على وسائل التواصل الاجتماعى على فلسطينيى ١٩٤٨ ويُتهمون جماعيا بالفرح لقتل الإسرائيليين وبتأييد حماس والفصائل الأخرى ويُحرّض ضدهم. وبين الإجراءات التعسفية للحكومة وخطاب الكراهية والتحريض المنتشر شعبيا، يبدو أن الفلسطينيين داخل إسرائيل تجنبوا الاحتجاج فى المساحات العامة بحثا عن الخروج من الموجة الراهنة بأقل الخسائر.
ويرتبط غياب الاحتجاجات الشعبية بفهم المجتمع الفلسطينى لتداعيات ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ على إسرائيل التى تشعر أغلبية مواطناتها ومواطنيها اليهود بأن ما حدث هو «هولوكوست اليوم الواحد» الذى أسقط فى ساعات قليلة عددا من القتلى اليهود لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتوقف جرائم الإبادة التى ارتكبها النازى بين ١٩٣٩ و١٩٤٥. دفعت الصدمة الجماعية هذه الفلسطينيين والفلسطينيات فى الداخل إلى الابتعاد عن استفزاز مشاعر المجتمع اليهودى باحتجاجات واسعة أو تحركات جماهيرية ضد الجرائم التى ترتكبها القوات الإسرائيلية فى غزة وضد عنف المستوطنين فى الضفة الغربية.
غير أن غياب الاحتجاجات الشعبية والتحركات الجماهيرية لا يعنى غياب المواقف السياسية الرافضة للحرب فى غزة والتى تأتى من عديد الأحزاب التى شكلها المجتمع الفلسطينى ولبعضها مقاعد فى البرلمان الإسرائيلى، الكنيست. فى هذا السياق، أصدرت أحزاب اليسار ويسار الوسط الفلسطينية العديد من البيانات الرافضة لما يجرى فى غزة والضفة والمطالبة بتوظيف الوسائل الدستورية والقانونية والسياسية المتاحة لمحاسبة حكومة الحرب بقيادة بنيامين نتنياهو على الجرائم المرتكبة.
وعلى الرغم من كون الرأى العام الإسرائيلى ليس فى وارد المطالبة بمحاسبة الحكومة على قتل الناس فى غزة أو على توفير الحماية للمستوطنين المتطرفين فى الضفة على حساب حقوق الشعب الفلسطينى، بل فقط فى وارد التشديد على حتمية محاسبة نتنياهو وحكومته على الإخفاق فى منع هجمات ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ والإخفاق فى إعادة جميع الرهائن إلى إسرائيل، على الرغم من ذلك تظل المواقف السياسية التى تتخذها الأحزاب الفلسطينية داخل إسرائيل هامة ومؤثرة بتعبيرها عن التضامن مع أخواتهم وإخوانهم فى غزة والضفة والقدس وعن وحدة القضية الفلسطينية بين أراضى ١٩٤٨ والأراضى المحتلة فى ١٩٦٧ والمهاجر المختلفة التى ذهب إليها الفلسطينيون فى الإقليم وفى العالم.
• • •
يشعر المجتمع الفلسطينى داخل إسرائيل بخيبة أمل كبيرة فى حصاد عملية السلام التى أطلقت فى تسعينيات القرن العشرين ولم تنتج إلى اليوم الدولة الفلسطينية الموعودة. ويشعرون بخيبة أمل أكبر لكون عملية السلام، وبغض النظر عن عدم اكتمالها وعن تنصل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من تطبيق البنود المتفق عليها وتعويق حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى والتحايل على وعد دولته المستقلة، همشتهم منذ البداية ولم تنظر إليهم سوى كمواطنين لإسرائيل لا يسألون عن مدى رغبتهم فى البقاء داخل الدولة العبرية أو فى الرحيل إلى الدولة الفلسطينية حين تُعلن ويعترف بها دوليا وتستقر أوضاعها. هذا التجاهل العميق لحقوق المجتمع الفلسطينى داخل إسرائيل يؤلم أفراده ويجعلهم فى حيرة من أمرهم بشأن قضايا الهوية والانتماء والمكان.
وقضايا الهوية والانتماء والمكان ليست قضايا نظرية كما أنها ليست من الترف السياسى فى شىء، بل هى فى صلب ما يواجهه المجتمع الفلسطينى ويتخوف منه وهو يتابع الصعود المستمر لليمين الدينى واليمين المتطرف فى إسرائيل وتداعيات ذلك على تشكيل الحكومات وعلى القوانين والسياسات المطبقة. يدرك فلسطينيو الداخل جيدا أن اليمين الدينى والمتطرف يريد تهجيرهم قسريا مثلما يريد تهجير أهل غزة والضفة والقدس قسريا لكى تخلو أرض فلسطين التاريخية من غير اليهود. يدركون أيضا حقائق الفصل العنصرى داخل إسرائيل التى تميز قوانينها وسياساتها ضدهم وتعتبرهم من مواطنى الدرجة الثانية.
ليس حديث فلسطينيى الداخل عن ضرورة أن يشتركوا فى تحديد المصير الفلسطينى، شأنهم شأن من يعيشون فى المهاجر ولهم حق العودة وبجانب أهل غزة والضفة والقدس، بترف سياسى، بل هو يدخل فى صلب بحثهم عن بدائل حقيقية فى مواجهة التهديد الوجودى الذى يمثله صعود اليمين الدينى والمتطرف وخططه للتهجير القسرى وتفريغ الأرض من غير اليهود.