الانتخابات الخامسة التى جرت فى إسرائيل فى السنوات الأربع الأخيرة، دلت على أن هنالك أزمة نظام عميقة ناتجة عن التغيرات المجتمعية والسياسية والعقائدية والحزبية القوية التى يعيشها المجتمع الإسرائيلى. ونسارع إلى القول أن لا علاقة لهذه الأزمة بالموقف من كيفية تسوية أو إنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى. الاختلاف فى المواقف بين القوى الإسرائيلية كما شهد تاريخ دبلوماسية محاولات تسوية هذا الصراع منذ مؤتمر مدريد للسلام وعبر المحطات التفاوضية المختلفة وما أنتجته، كان يتعلق بالأسلوب وببعض التنازلات الثانوية التى لا تعالج جذور الصراع ومسبباته الفعلية. كما أنها لا تقبل بالقرارات الدولية التى تدعو للتسوية الشاملة والتى تحظى على الأقل بالإجماع الرسمى ولو لم يكن الفعلى على الصعيد الدولى.
الحكومة الجديدة تتحكم بها بالفعل القوى التى تمثل اليمين الدينى الأكثر تشددا وتطرفا فى رؤيته واستراتيجيته وسلوكياته القائمة على عدم الاعتراف كليا بالآخر الفلسطينى سواء تعلق الأمر بهويته الوطنية أو بحقوقه من وطنية وفردية تحت الاحتلال.
ويمثل كل من وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، زعيم حزب القوة اليهودية ووزير المالية بتسليل سموتريتش زعيم حزب الصهيونية المتدينة الثقل الرئيسى أو قوة الدفع الأساسية فى تحديد السياسات الحكومية الجديدة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة. بن غفير يقوم بتدنيس حرمة المسجد الأقصى، وهو ما يذكر بما سبق وقام به أرييل شارون فى عام ٢٠٢٢ من تدنيس للمسجد الأقصى. وقد أدى حينذاك إلى انطلاق شرارة الانتفاضة الثانية. وللتذكير أيضا أن الظروف اليوم أكثر انسدادا على الصعيد السياسى وبؤسا على الصعيدين الإنسانى والوطنى بالنسبة للشعب الفلسطينى.
إذا كان هذا الأمر يندرج فى إجراءات الدفن الرسمى لحل الدولتين، فإن هنالك خطوات أخرى اتخذتها الحكومة الجديدة فى بداية تسلم مهامها وكانت بمثابة رسالة فى الاتجاه ذاته. من هذه الخطوات تجميد خطط البناء للفلسطينيين فى بعض مناطق الأراضى المحتلة، ووضع اليد ومصادرة نحو 37,7 مليون دولار تعود إلى السلطة الفلسطينية وهى تمثل الرسوم الجمركية المقتطعة من قبل إسرائيل، لمصلحة السلطة، وفق ما هو معمول به حسب الاتفاقيات الناظمة للعلاقات بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية. هذا الاقتطاع أعلنت عنه إسرائيل كعقاب للسلطة بسبب «الاعتداءات على الإسرائيليين من طرف فلسطينيين». ودفعت به «للمعتدى عليهم». نضف أن إسرائيل زادت مع بداية تسلم الحكومة الجديدة لمسئولياتها بتوفير جميع الظروف المشجعة والمسهلة لتكثيف الاستيطان والربط الجغرافى بين المستوطنات. الأمر الذى يزيد من عملية محاصرة وخنق بعض القرى الفلسطينية ودفع أهلها للمغادرة. ويبقى الهدف الرئيسى بالطبع، ولو يتم تنفيذه بشكل تدرجى وغير مباشر أحيانا، طرد الفلسطينيين وتهجيرهم إلى خارج أراضيهم. إنها حرب عبر الجغرافيا والديمغرافيا أخذت الحكومة الجديدة تعمل بها وتبلور القرارات المسهلة لذلك منذ الأيام الأولى لتوليها السلطة كاشفة عن استراتيجية الضم التدريجى للضفة الغربية وتغيير بنيتها الديمغرافية. وتستفيد فى هذا الصدد من السكوت الدولى المنشغل بصراعات أخرى ضاغطة وأهمها أوكرانيا وعودة المواجهة الدولية فى أوروبا وعبر بوابة تايوان وجوارها فى المحيطين الهادئ والهندى: الأولى مواجهة غربية روسية والثانية غربية صينية. نضف إلى ذلك أن ما يشجع على هذه السياسة الجديدة الناشطة والحاملة لأهداف التغيير البنيوى الكلى فى الأراضى المحتلة بغية تحقيق قيام دولة إسرائيل الكبرى، غياب أى وضع فلسطينى وعربى رادع لهذه السياسة. أهداف تعكس «التديين» الكلى للنزاع، الأمر الذى يعنى إلغاء جميع مرتكزات وأسس الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى على أرض الواقع لأنها تشكل نقيضا وتهديدا للأهداف التى يحملها هذا التديين الكلى للنزاع من طرف السياسة الإسرائيلية.
فهل يعى المعنيون بالأمن والاستقرار فى المنطقة أن ما يحصل من دينامية سياسية إسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة سيؤدى حكما إلى حصول انتفاضة ثالثة. انتفاضة فى ظل هشاشة الأوضاع فى الإقليم من جهة والخطاب الدينى الإسرائيلى الإلغائى من جهة أخرى ستتغذى عليها دون شك كل الراديكاليات فى المنطقة. وستخلق بؤرة جديدة للتوتر والنزاع الناشط فى المنطقة تغذى أيضا وتتغذى على النزاعات المختلفة والمنتشرة فى الشرق الأوسط.
سؤال سيجيب عنه المستقبل القريب إذا لم تتبلور مبادرة تقوم بها أساسا قوى عربية ومعها قوى دولية لوقف هذا التصعيد الخطير وإعادة إحياء ولو بشكل تدريجى لعملية التسوية السياسية، المعروفة أسسها وقواعدها، من أجل تحقيق السلام الشامل والعادل والدائم. هدف دونه الكثير من المصاعب والعوائق، لكن عدم المضى فى سياسة تهدف إلى تحقيقه سيغذى حالة الفوضى والتوتر فى المنطقة كما أشرنا.