يمتد عمر الدولة المصرية آلاف السنين، لكن علامات العجز، وآثار الشيخوخة طغت عليها فى السنوات الأخيرة، وتحولت إلى ما يشبه الرجل العجوز الذى يتوكأ على عكاز دون أن يفقد الأمل فى استعادة عافيته.
شيخوخة مبارك كانت تداريها المساحيق، والمتابعة الصحية اللصيقة، وشيخوخة الدولة فى عهده اختبأت خلف جبروت القمع، وثقافة الخوف لدى المواطن، وحشر المواطنين فى كيانات طائفية وقبلية وسياسية تمارس عليهم الضبط بالوكالة عن الدولة.
لم تسقط الدولة عندما تداعى نظام مبارك، ولكن لم يعد لديها ما تخفى به وهن الشيخوخة، وتحولت إلى «رجل عجوز» يعيش على الدواء والمسكنات، والاستدانة الداخلية والخارجية لسد الفجوة بين الإيرادات والمصروفات. استغل ابناؤه ضعفه، فخرجوا عن طاعته، وإن كانوا لا يزالوا يتمنون له طول العمر، واستعادة العافية، ودوام الصحة.
استخدمت وسائل الإعلام ــ المملوكة للدولة والخاصة ــ مصطلح «هدنة» للتعبير عن حالة توقف الاقتتال بين قبيلتى «الدابودية» و«بنى هلال» فى أسوان، ورأينا من يتحدث عن «خرق الهدنة»، ومسئول أمنى ينفى حدوث خروقات للهدنة. ورغم التأكيد الرسمى على معاقبة الجناة، فإن الدولة باتت فى مشهد الوسيط المفاوض بين طرفى النزاع، ترعى الصلح العرفى، وفض الاشتباك، وتراقب التزام الطرفين بالهدنة.
تدرك الدولة حالة الضعف التى تعتريها، ولا تطمح فى أكثر من أن تكون وسيطا. فى أحداث التوترات الدينية ترعى جلسات الصلح العرفى، وفى الإضرابات الفئوية ترعى المفاوضات، ومن لا تستطيع التعامل معه تسعى لاستيعابه فى منظومتها، والتنسيق الوظيفى معه مثلما يحدث مع «الباعة الجائلين» الذين ابتلعوا الأرصفة المنكمشة بطبيعتها فى وسط المدينة، ثم بسطوا نفوذهم على حرم الشارع ذاته. ويبدو التنسيق فى توقيت تمدد الباعة، وتوقيت انكماشهم، بالتأكيد ليس مكتوبا، وربما لم يناقش علانية، لكنه تفاهمات ضمنية بين أجهزة دولة لم يعد لها سلطان على الشارع، واقتصاد غير رسمى تمدد، وزحف، وتوغل فى الشارع المصرى.
القضية أكبر مما يحدث فى أسوان. المصريون يريدون دولة، لأن قدرهم السياسى والجغرافى أن يعيشوا فى دولة فاعلة. قوتهم من قوتها، وضعفهم من ضعفها.
استعادة الدولة الفاعلة ــ عكس الضعيفة أو العجوز أو المترهلة ــ لا يكون إلا بثلاثية الديمقراطية والتنمية والقانون. الديمقراطية تعنى مشاركة كل أبنائها فى صناعة المستقبل، والتنمية هى تمكين المواطن من موارد مجتمعه، والقانون هو تحقيق المساواة، وتطبيق قواعد العدالة.
هناك من يمنى نفسه بأن تعود الدولة بهيئتها وشكلها القديم، غير مدرك أن الزمن تجاوزها، ولم تعد تستطيع أن تفرض هيمنتها.
وهناك من يحلم بتفكك الدولة، ويراهن على تبعثرها، وهو أمر لن يحدث لأن المصريين لن يقبلوا بزوال الدولة.
وهناك من يتطلع إلى دولة حديثة، دولة كل مواطنيها، تربط بين قضايا الديمقراطية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، وهو ما يجعلها قوية بمواطنيها، أكثر مما يكون مواطنوها أقوياء بها.
الاستدعاء «المنظم» للمواطن إلى جانب الدولة يعيد إليها شبابها، ويخفف الأعباء عن كاهلها، ويعطى إعادة التأسيس العقلانى لها مساندة شعبية. الدولة ــ ليست فقط مؤسسات سياسية ــ لكنها بيروقراطية مدنية وأمنية، تحتاج إلى إصلاح، وإعادة هيكلة، ورفع معدلات الكفاءة، والأخذ بمعايير الحكم الرشيد.