الأوبرا الحائرة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:17 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأوبرا الحائرة

نشر فى : السبت 9 مايو 2015 - 9:45 ص | آخر تحديث : السبت 9 مايو 2015 - 9:45 ص

إعلانٌ ملونٌ احتلّ ما يقرُب مِن نصف صفحةٍ فى أشهر الجرائد وأكثرها انتشارا، وتكرر لأيامٍ مُتتاليةٍ مُستصرِخا القارئ كى ينضمّ إلى جانب المُعلِنين ويوقف «الإرهاب». يبدو أن صيغة الأمر وحدها «أوقف معنا الطوفان» لم تكن كافية ولا مُرضية حيث أعقبها تهديدٌ ووعيد: «إذا لم تكن ضحية اليوم فستكون ضحية الغد». أشار الإعلان إلى مؤتمر هدفه كما هو ظاهر للعيان «مكافحة الإرهاب».

لم أتوقَّف طويلا أمامَ مضمونِ الخطابِ وتكوينه وهى أمورٌ يمكن أن يُقال فيها ــ حين تكون الأحوال طبيعية ــ الكثير والكثير. لم أتوقّف أيضا أمام الصورة المُصَاحِبة وهى صورةٌ تبدو مُصَمّمَة لاجتذاب جمهور أفلام الحركة الرديئة إلى دور العرض، كذلك لم أتوقف أمام المساحة المرعبة التى اجتزأها الإعلانُ مِن الصفحات، لكنى عَجَزت مندهشة عن تجاوز إحدى المعلومات الواردة فيه. رغم اعتيادى أخيرا على تلقى عجيب الأخبار بقدر لا بأس به مِن المرونة، وبقُدرةٍ مُتنامية على التجاهل وغضّ البصر، استوقفنى مكان المؤتمر المُزمع انعقاده هذا الشهر: دار الأوبرا المصرية. عاودت القراءة لأتأكد من طبيعة الحدث ثم استأنفت الدهشة إذ لم أدرك العلاقة التى تربطه بالمكان، وتعطيه حق الوجود فيه.

•••

تذكرت فى دقائق تالية أن هذه ليست المرة الأولى التى تُستَخدَم فيها دارُ الأوبرا استخداما بعيدا عما أُنشِئَت مِن أجله، ففى مَطلَع هذا العام استضاف المسرح الصغير ندوة حول تجديدِ الخطاب الدينيّ بحضور وزيريّ الثقافة والأوقاف، وأبرزت الصحف حينها أهمية مواجهة التطرف عبرَ الفن والثقافة، ويبدو إن هذه الفكرة أدت دورا رئيسا فى استباحة دار الأوبرا ومسارحها، فتحت دعاوى مكافحة الإرهاب صار حديث الدين والسياسة جزء مِن أنشطتها.

ثمة اعتقادٍ نمطيّ يصوّر الفنّ على إطلاقه سلاحا ضد الأفكار المتشددة، وثمة رابطٍ يفترضه قسمٌ مِن البشر بين الفنّ وما يُوصَفُ بكونِه أخلاقيات قويمة. لم أجد فى نفسى مَيلا لدعمِ أى مِن الاثنين؛ الاعتقاد والافتراض، ولو مِن بابِ تجميل الصورة الذاتية. لم يكن الفنّ يوما مقصورا على تمجيد الفضائل وشحذ السلوكيات الحميدة وتوجيه البشر إليها، ولم يكن كذلك عاصما لأصحابه ولا للمولعين به مِن مُمارسة العنف، نعرف إنه مثلما يمكن توظيف الشعر والموسيقى فى أغانٍ تُمَجّدُ السلام والتعايش فإنهما يوظفان أيضا فى صناعة أناشيد تُحرّض على إبادة آخرين، ونعرف أيضا إن مِن بين كبار قادة الحروب مَن كان يقضى وقتا طويلا فى الكتابة ورسم اللوحات التشكيلية مثل تشرشل، ومَن كان مُواظبا على حضور حفلات الأوبرا والأوركسترا السيمفونى، ومَن كان أيضا يعزف على آلة موسيقية، ولم تردع هذه ولا تلك أيهم عن ارتكاب أعمال القتلِ والتدمير، ولا يغيب عن الذهن فى معرض هذا الحديث إن بلدا مثل إيطاليا؛ مَعقل الغناء الأوبرالى، هو فى الوقت ذاته مَوطِن عصابات المافيا، ويذكر مَن شاهدَ فيلم «الأب الروحى» بأجزائه مَشهدا فى الجزءِ الثالث لآل باتشينو وهو يحضر مُنسجِما مع أفرادِ العائلةِ عرضا أوبراليا، ولا يمنعه العرض عن ممارسة القتل كما اعتاد.

•••

يتسع الفن بطبيعة الحال للحقد والكره والعنف وللمؤامرات والمكائد، تماما مثلما يتسع للخير والتسامح والإيثار، ولو اقتصر على الاحتفاء بالجوانب الثلاثة الأخيرة وعمد إلى تنفير المتلقى مِن الأولى لصار دينا لا فنا. لا تتعاطف الجماهير مع الأبطال ذوى الخلق الرفيع فقط، فكثيرا ما تعاطفت مع هؤلاء العصاة الأشقياء، ومع الأشرار والمجرمين، ويسرى تعاطفها هذا على مختلف ألوان الدراما؛ عن نفسى تعاطفت مع أبطال بروسبير مريميه فى أوبرا كارمن: مع «دون جوزيه» القاتل، ومع الغجرية الخائنة، كما تعاطفت أيضا مع بطل أناتول فرانس فى تاييس: «بافنونس» الراهب وقد ترك رداءه الدينى مُلتاعا وراء امرأة لاهية. ثلاثتهم فى المنطق الفنى رائعون، وقد ارتكبوا فى الوقت ذاته، وبمنطق الأخلاق، فظائع متعددة ونالوا جزاء مُلائما، مع ذلك لم تدفع مصائرهم الجماهير إلى الكفّ عن الكذب أو الخيانة أو اقتراف الخطيئة.

•••

مع متابعتى لتلك الأنشطة والأخبار المتعلقة بالأوبرا، ومع ظهور عناوين من قبيل الأوبرا ومحاربة الإرهاب، والأوبرا وتجديد الخطاب الدينى، قفزت إلى ذاكرتى سلسلة أفلام اسماعيل ياسين فى الجيش، وإسماعيل ياسين فى مستشفى المجانين، وفى متحف الشمع والأسطول، وتصورت أننى قد أسمع قريبا عن الأوبرا وأعطال الكهرباء أو الأوبرا وأزمة المياه أو الأوبرا والإنزال البرى فى اليمن. ربما يرى بعض القائمين على الأمور إن دار الأوبرا يجب أن تستحيل منبرا سياسيا أو دينيا لتسهم فى التنوير والتجديد ومقاومة العنف، وعن نفسى لا أظنها مركزا لمحاربة الإرهاب، ولا مؤسسة دينية لتجديد الخطاب وتنقية التراث، إذ لا يُضفى استغلالها على الأمرين بعدا ثقافيا ولا يزيد مِن قيمتها شيئا، إنما هى تبتذل دورها الحقيقى وتقدّمُ دورا ليس لها.

•••

لم يضق الكون عن استضافة مؤتمر يبحث الإرهاب، القاعات كثيرة والفنادق لا حصر لها، والأموال تبدو كذلك أيضا، إنما هو الإصرار على خلط الأوراق فى لحظة عز الفصل فيها بين العبث والمنطق، وقد صار بإمكان نفر من الناس تسييس وتديين حياتنا حتى النخاع.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات