لم تعد الكنيسة القبطية، التى أسسها القديس مرقس الرسول فى القرن الأول الميلادى، كيانا مؤسسيا محليا، بل صارت فى نصف القرن الاخير كنيسة عالمية، تنتشر فى شتى بقاع العالم، تحمل الروح المصرية، وتمثل نموذجا يحتذى فى الحفاظ على الطابع الروحانى الذى تتسم به، وفى الوقت نفسه تستوعب الثقافات الأخرى. من هنا تمثل زيارة البابا تواضروس الثانى إلى روما، والتى يلتقى خلالها البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، التقاء بين قمتين دينتين، افترقت كنيستهما فى القرن الخامس، ولكن التاريخ جعل هناك مساحات لقاء بينهما بعد مرور خمسة عشر قرنا.
احتفاء خاص سوف يلقاه البابا تواضروس، لا يحظى به رئيس أى كنيسة أخرى، من مشاركة فى الاجتماع المفتوح لبابا الفاتيكان، الذى يلقى فيه تعاليمه على المؤمنين، إلى جانب تخصيص كنيسة كاثوليكية كبرى يقيم فيها رأس الكنيسة القبطية قداسا، فى سابقة لم تحدث من قبل، كل ذلك يشير إلى ثقل الكنيسة القبطية، وامتدادها عالميا، وأيضا الحضور المصرى دينيا وحضاريا.
هناك أسباب كثيرة جعلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية محل اهتمام متزايد عالميا، بعد أن كان يُنظر إليها لسنوات طويلة على أنها كنيسة محلية، بل إن هناك من المسيحيين فى الغرب لم يكن يدرك أن هناك حضورا مسيحيا فى مصر، رغم أن الكنيسة القبطية تعود إلى بداية انتشار المسيحية ذاتها، ولها حضور لم ينقطع على مدى أكثر من عشرين قرنا. من أسباب تزايد الاهتمام انتشار الكنائس القبطية فى مختلف دول العالم، وكثرة عدد الرسائل العلمية التى تتناول الاقباط سواء أعدها ابناء الجيل الثانى من المهاجرين الاقباط فى الجامعات الأوروبية والامريكية، أو أعدها باحثون أجانب انشغلوا بالبحث فى تاريخ وتراث الكنيسة القبطية، رافق ذلك اهتمام عالمى بكنيسة راسخة، واجهت اضطهادات قديمة، وضيقات حديثة، ولم تجف دماء شهدائها منذ القرن الأول الميلادى حتى الان، وكان لشهداء ليبيا، وشهداء الإرهاب الذى طال الاقباط ضمن المصريين عامة دور مهم فى لفت الأنظار إلى الكنيسة القبطية، عزز ذلك السياسات الإيجابية التى انتهجتها الدولة فى العقد الأخير، على وجه الخصوص، فى نشر ثقافة المواطنة، ومواجهة التطرف، وإبراز المكون الثقافى والحضارى القبطى ضمن النسيج الحضارى المصرى.
فالكنيسة القبطية، كما قال طه حسين، مجد مصرى قديم، ويمثل شهداؤها وآباؤها الرهبان عبر التاريخ شهودا على ثقل هذه الكنيسة، ورسوخها، وانتاجها الروحى. وهى مصرية الجذور، تمثل مصر، وثقافاتها، وروحها داخليا وخارجيا، وأى تكريم أو احتفاء تحظى به، هو احتفاء لمصر، لأنها كنيسة مصر، تمتد منها إلى العالم الخارجى.
وقد أرسلت الدولة المصرية فى السنوات الأخيرة رسائل ايجابية مهمة فى الشأن الدينى من بينها الاهتمام بمسار العائلة المقدسة، التى لم تذهب إلى مكان آخر سوى مصر، جاءت لاجئة، مثلما تفتح مصر أبوابها لملايين اللاجئين من كل الجنسيات، وتركت مزارات مهمة، تشكل فى ذاتها مصدرا مستداما للتنمية لأجيال من المصريين، وعندما جاء البابا فرنسيس إلى مصر منذ سنوات أشار إلى أنه يأتى إليها حاجا، فهى مكان تبارك بالعائلة المقدسة، يُحج إليه، ويمثل تأكيدا مهما على أن مصر ظلت على تعدديتها الدينية، وحافظت عليها. ونأمل أن تعزز هذه الزيارة فرص قدوم المسيحيين من شتى بقاع العالم لاقتفاء مسار العائلة المقدسة. والأمر اللافت أنه فى الوقت الذى تحرص فيه مصر على تعدديتها الدينية، تأثر الحضور المسيحى فى المنطقة من فلسطين مهد السيد المسيح، إلى العراق وسوريا ولبنان. وفى رحاب الكنيسة القبطية، وبدعم من الدولة المصرية، عقدت العام الماضى الجمعية العمومية لمجلس كنائس الشرق الأوسط، الذى يضم كل مسيحيى المنطقة فى رحابه، لأول مرة فى مصر، تعبيرا على أن الحضور المسيحى راسخ فى الثقافة المصرية التى تحتفى دائما بالعلاقات الإسلامية المسيحية فى ظل مبدأ المواطنة.
زيارة البابا تواضروس إلى روما، تحمل مغزى مهما، فهى امتداد لمسيرة استمرت خمسة عقود بدأها الراحل البابا شنودة الثالث، وتجسد فى ذاتها رسالة مفادها أن مصر، الدولة والكيان والشعب، تنتصر لتعدديتها الدينية، وصامدة امام الإرهاب، والمنازعات، والتفسخ الذى أصاب العديد من دول المنطقة.