ولاة المحبة.. المتصوفة والعشق الإلهى - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 8:37 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ولاة المحبة.. المتصوفة والعشق الإلهى

نشر فى : الجمعة 9 يونيو 2017 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 9 يونيو 2017 - 9:45 م
(ذق يا باغى الحب.. هو الحبّ ولا حبّ إلا به)
بين حين وآخر، تطلب النفس كتابا قديما أو منسيا، تجدّ فى البحث عنه وربما أنفقت يوما أو يزيد فى «قلب» المكتبة رأسا على عقب دون جدوى، لكن فى الأغلب لا تخلو هذه الرحلة المرهقة من متع وعطايا، صحيح أنك لن تصل إلى ما تبحث عنه وسط أكوام الكتب المكدسة المرصوصة وفقا لنظرية «الفوضى الخلاقة»! لكنك ستعثر فى الوقت ذاته على كنوز أخرى، وستجد فى طريقك كتبا ربما يئست من العثور عليها قبل سنوات.
يحدث هذا معى على فترات، وخاصة فى رمضان، حينما أبحث عن كتاب تراثى قديم أو نص من نصوص المتصوفة الكبار، أو أعاود بعض المتون التى تُستدعى فى هذا الشهر الكريم، ولربما كانت قراءة كتب بعينها مرتبطة ارتباطا شرطيا عندى برمضان؛ يعنى مثلا «الحب الإلهى فى التصوف الإسلامى» للمرحوم محمد مصطفى حلمى، وهو واحد من أجل الكتب وأجملها وأرقها التى قرأتها عن التصوف والمتصوفة وتأملاتهم الحانية المشبعة بالمحبة والسلام، ولا أنسى أبدا إهداءه الذى حفظته عن ظهر قلب «إلى الذين يلتمسون نجوى السرائر، وسلوى الضمائر، ونور العقول، وقوت القلوب».
أيضا، كتاب «بحار الحب عند الصوفية» للمرحوم أحمد بهجت، من الكتب التى لا تفارقنى. منذ اقتنيته عن دار الشروق قبل سنوات طويلة، وأنا أحب الرجوع إليه ومطالعة فصوله والالتذاذ بقراءته، وبخاصة فى رمضان، كتاب مريح للأعصاب ومنعش للروح، كتبه صاحبه بقلبه لا بعقله، مداده الحب الخالص.
وهكذا يقودنى خيالى حيثما اتفق، أتنقل بين هذه الكتب وأستعيد طرفا من ذكريات قديمة واستغراق متأمل يتناسب مع شهر الروحانيات والتقرب إلى الله، واستدعاء صفاء النفس وترقية الروح، ثم تتجلى لى نصوص المتصوفة الكبار واحة عامرة بكل ما لذّ وطاب من الجمال والإبداع والتأمل وطرح رؤى فريدة فى النظر إلى الخالق وعبادته، والتقرب إليه والفناء فى عشقه.
وتراث المتصوفة المسلمين تراث عريض وثرى (ربما كان من أثمن ما قدمه المسلمون إلى الحضارة الإنسانية) يزخر بالكنوز والجواهر، سواء على مستوى موضوعاته وقضاياه التى تعرض لها أو بلغته الإشارية الرمزية النافذة، وحكايات الأولياء وكرامات أهل المحبة التى تعرض لجانب مهم وفريد من التجربة الروحية فى الإسلام. خصوصا وأن جوهر التجربة الصوفية يرسخ ويؤكد أن الطريق إلى الحقيقة ومعرفة الله تتعدَّد بتعدُّد السالكين، هكذا يقول الصوفية؛ ويضيف ابن عربى أنها تتشكل وتتلوَّن مثل الماء والإناء.
هؤلاء المتصوفة الكبار (منذ ظهور ابن ذى النون المصرى فى القرن الثانى للهجرة مرورا بالجنيد والشبلى وأبى يزيد البسطامى وصولا إلى ابن عربى وابن سبعين وغيرهم) هم العاشقون العارفون؛ هم أهل المحبة وأصحاب الحظوة، المخصوصون بالكشف، المختصون بالمكاشفة، قالوا «إن المحبة هتك الأستار وكشف الأسرار»، وبعضهم قال: «حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شىء»، وقال آخر «المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك».. وما أجمل ما يقولون ويكتبون وما أصفى ما يعرضون!
تكاد تقوم تجربة المتصوفة فى مجملها على ملكة «الخيال»؛ ويكادون ينفردون بنظريات وتصورات خاصة وخطيرة عن اللغة التى تجسد تجاربهم (أشار المرحوم الناقد الكبير شكرى عياد فى غير مناسبة إلى رغبته فى أن تتهيأ الظروف له أو غيره كى يبحث فى موضوع نظرية الفن عند المتصوفة؛ وهو من الموضوعات التى يتكشف يوما بعد يوم مدى روعة وقيمة المنجز الذى خلفه المتصوفة فى هذا الإطار)، فالخيال المبدع لدى المتصوفة وسيلة لإحداث التغيير الروحى، والحب شرط له.
الحب هو جوهر القيمة الروحية، وتجب العناية بالتمييز بينه وبين طلب شىء، أو«إرادة» شىء، كما تجب العناية بالتمييز بينه وبين «التوهم» أو أحلام اليقظة، وأساس التمييز أن هذه جميعا ــ الطلب والإرادة والتوهّم ــ أفعال وحدة أو ناظرة إلى الذات ويمكن أن يقوم بها الإنسان بنفسه، فى حين أن «الخيال» المبدع مثل المغناطيسية يحتاج إلى قطبين حتى يوجد قطب موجب وقطب سالب، فهو ليس فعلا واحدا بل متبادلا: إعطاء، وتلقٍ، وهو يحتاج إلى توتر يصل بين المعطى والمتلقى، والفن أحد أشكال ذلك التوتر.
ستكون لحظة فارقة ورائعة عندما تقارب بعضا من نصوص هؤلاء المتصوفة وسردياتهم البديعة التى لم يكشف بعد عن كل مخطوطاتها (على الرغم من كثرة الجهود التى بذلت فى القرنين الأخيرين من تحقيق كتبهم ونشرها نشرا دقيقا وتوفر باحثين وأساتذة أجلاء لدراسة هذه المتون وكتابة دراسات وافية عن أصحابها فإن الكثير من مخطوطات هؤلاء لم يصل إلينا ومنها ما لم يتيسر إخراجه ونشره بعد).. لكن ما وصلنا ليس قليل وبعضه يستحق أن يفرد له مساحة خاصة..
وللحديث بقية..