سمعت اسم توماس راسل باشا الذى تولى قيادة شرطة القاهرة عام ١٩١٧ لأول مرة من الروائى نجيب محفوظ خلال حديث لأحد البرامج الإذاعية تناول فيه الكيفية التى تعاملت بها الشرطة مع انتشار المخدرات بعد ثورة ١٩.
أشاد محفوظ بالإجراءات التى لجأ إليها راسل الذى تقول مذكراته الكثير الذى يستحق أن نعرفه عن مجتمعنا وتاريخنا.
صدرت المذكرات قبل ثلاثة أشهر عن دار الرواق بترجمة متميزة أنجزها الروائى مصطفى عبيد الصحفى بجريدة الوفد والشغوف بتاريخ مصر شغفا دفعه للبحث عن المذكرات وترجمتها
ويروى فى مقدمته الموجزة تفاصيل رحلته للعثور على الكتاب الذى أصبح نادرا ولم يترجم إلى العربية على الرغم من مضى أكثر من ٧٥ عاما على انتهاء خدمة الرجل الذى أمضى فى مصر ما يقرب من نصف قرن طاف خلالها المديريات والقرى والصحارى.
وكانت هذه المذكرات مصدرا رئيسيا فى كتابات مهمة تؤرخ لمؤسسة الشرطة والجريمة سواء تلك التى كتبها المؤرخ الدكتور عبدالوهاب بكر أو ما كتبه الدكتور عماد هلال فى دراسته المتميزة عن مجتمع البغايا فى مصر خلال الفترة من 1834 ــ 1949.
وبالتالى فهى ذات أهمية كبيرة خاصة أنه من النادر أن تجد بين مصادرنا كتابات لقادة أجهزة الأمن الذين يفضلون عادة أن يعيشوا أعمارهم كصناديق سوداء لا يمكن فك شفراتها.
وهناك كتابات كثيرة لكبار الموظفين الأجانب الذين عملوا فى الإدارة المصرية والكثير من هذه الكتابات تقدم مادة غنية لفهم المجتمع، على الرغم من النزوع الاستشراقى فى أغلبها.
وكعادة هؤلاء كتب راسل كثيرا عن مغامراته وجولاته فى الصحراء وتعامله مع البدو والأعراب وشغفه بالصيد والخيل والجمال إلا أن ما كتبه عن المصريين وعالمهم يبقى بالغ الأهمية وبالذات إيمانه بأن جانبا رئيسيا لنجاحه يعود لإصراره على بناء معرفة عميقة بالمصريين فى القرى والتعرف على لغتهم اليومية وإجادتها، ففى خلال ٤٤ عاما عمل راسل من ٣٢ حكومة متعاقبة وتلقى الأوامر من ٢٩ وزير داخلية، وقام بالقبض على بعضهم دون أن يفقد صداقته لأنه «كان ينفذ الأوامر».
يرى راسل أن كتابه ليس مجرد تسجيل لحياة شرطى وإنما تسجيل لجانب مهم من حياة الناس ويفخر بإدارته للأمن فى مصر وجهده فى تأسيس وحدة الهجانة لأول مرة أو العمل مع فرق الكلاب المدربة (الكلب هول) للمعاونة فى الكشف عن المجرمين.
وتحمل المذكرات إشادة بمستوى رجال الأمن المصريين خلال الحقبة الاستعمارية وطرق مكافحة الفساد داخل الجهاز وخارجه.
وأهم ما فى المذكرات أن صاحبها اجتهد ليعمل وفق رؤية علمية فهو مثلا يبدأ كل فصل بالمعلومات والإحصائيات التى اعتمد عليها فى إدارة العديد من الملفات، وأبرزها بالطبع الظروف المعيشية لرجال الشرطة لدرجة أنه طلب رسميا من الشئون الاجتماعية إعداد دراسة علمية حول الموضوع للاسترشاد بنتائجها، مؤكدا أن «الإصلاح الاجتماعى والأمن العام يتيح مكانا عظيما للعمل السياسى العام بحيث ينبغى أن تتخذ العقول فى البلد لأجل ذلك» ولو كنت فى محل صاحب القرار لقمت بتدريس هذا الكتاب بين المناهج التى يدرسها طلاب كلية الشرطة.
ويبقى الفصل المتعلق بسيطرته على تجارة المخدرات واحد من أجمل فصول الكتاب وأغزرها بالمعلومات التى تعكس فهما حقيقيا لـ(نفسية) المصريين البسطاء الذين سقطوا ضحية لهذا العالم، ويشير بوضوح إلى زمن انتشار الهيروين منتصف العشرينيات؛ حيث بلغ سعر الكيلو الواحد (٣٠٠ ج)، ولذلك بدأ العمل انطلاقا من الإصرار على تعديل تشريعى حازم وتخصيص أول مكتب لمكافحة المخدرات بمهام واسعة ومحددة إلى جانب حث الحكومة على إنشاء مراكز لعلاج الإدمان خارج القاهرة.
بالإضافة إلى ذلك يسجل شهادته المهمة والتفصيلية عن حدث فارق مثل ثورة ١٩١٩ وهى تعكس فهما عميقا وتقديرا لكفاح قادة الوفد لنيل الاستقلال فضلا عن حكمة فى التعامل مع المد الثورى فى بعض الحوادث التى رافقت أحداث الثورة، كما تتضمن مواقف طريفة واجهها ونجح خلالها فى ألا يكون طرفا فى الصراعات الحزبية ومنها واقعة قطار حلوان عام ١٩٣٢؛ حيث قامت حكومة إسماعيل صدقى بمنع مصطفى النحاس باشا زعيم المعارضة من السفر إلى طنطا فى جولة جماهيرية ونجحت الحكومة فى فصل عربة الدرجة الأولى التى تضم أعضاء الوفد عن القطار ليغادر فى موعده من دون النحاس ورجاله الذين جرتهم عربة أخرى إلى صحراء حلوان وهناك رفض الوفديون مغادرة القطار بعد أن تأكدوا من شرب المقلب!.
ونجح راسل على الرغم من ذلك فى تنفيذ أوامر الحكومة وتجنب الصدام مع صدقى باشا.