العنف اللفظى الذى يهيمن على المساحة العامة فى مصر منذ ٣٠ يونيو والعنف السياسى الذى ينتجه الإخوان وحلفاؤهم وكذلك الأحزاب والتيارات المؤيدة لترتيبات ما بعد الدكتور محمد مرسى، كما شرحت بالأمس، يدفعان معا مؤسسات وأجهزة الدولة إلى عنف من نوع ثالث.
وسمات هذا النوع من العنف المؤسسى هى إجراءات استثنائية تطال معارضى عزل الدكتور مرسى. شفافية ومحاسبة غائبة عن انتهاكات حقوق الإنسان منذ ٣٠ يونيو، وممارسة سياسية رسمية يهيمن عليها الجيش وتلصق صفة الكرتونية بمؤسسة الرئاسة المؤقتة وحكومته. عملية منظمة لتنشيط ذاكرة تعقب المعارضين وتقييد الحريات داخل المؤسسات الأمنية، وخطاب رسمى يتجاوز التأكيد المشروع على ضرورة مواجهة الإرهاب فى سيناء والعنف فى كل أرجاء الوطن حفاظا على الأمن القومى إلى الإخراج التدريجى لمواجهة الإرهاب والعنف من سياق الالتزام بالقانون وسيادته وكذلك من سياق الفصل الجوهرى بينها وبين الصراع السياسى حول ترتيبات ما بعد ٣٠ يونيو.
وكما يتناقض العنف اللفظى والسياسى مع جوهر الديمقراطية وحقوق الإنسان، تتناقض سمات العنف المؤسسى مع أهداف بناء الدولة المدنية الحديثة الملتزمة بسيادة القانون والضامنة للحريات وللحقوق وللمساواة بين جميع المواطنات والمواطنين. ولا يغير من ذلك كون بعض الشخصيات السياسية والحزبية المحسوبة على الدولة المدنية قبلت المشاركة فى مؤسسات وأجهزة الدولة فى إطار ترتيبات ما بعد ٣٠ يونيو.
فحساب هؤلاء على الدولة المدنية بات محل شكوك حقيقية بعد تأييدهم لتدخل الجيش وصمتهم على الإجراءات الاستثنائية وغياب الشفافية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان. هؤلاء، ومعهم الأحزاب والتيارات اليمينية واليسارية، زجوا بالديمقراطية وبالدولة المدنية إلى نفق مظلم وفتحوا أبواب المجتمع واسعة أمام عسكرة المخيلة الجماعية ويتحملون أمام التاريخ مسئولية الأزمة العميقة (وحتما طويلة المدى) للأفكار الليبرالية ولأفكار اليسار فى مصر بعد فقدانها لمصداقيتها الديمقراطية.
فى ظل موجة العنف اللفظى والسياسى والمؤسسى الراهنة لا يأتى، إذن، كمفاجأة تراجع النقاش العام الجاد بشأن تطبيق برنامج محدد للمحاسبة وللعدالة الانتقالية يغطى الفترة الممتدة منذ ١٩٨١ وإلى اليوم. ولا يأتى كمفاجأة أيضا الهجوم الهيستيرى على كل صوت يرفض إقصاء الإخوان واليمين الدينى ويدعو إلى مصالحة وطنية بعد المحاسبة وشريطة الالتزام بسلمية وعلنية العمل العام والامتناع عن توظيف الدين فى السياسة على نحو يتناقض مع قيم المدنية والمواطنة. ولا يأتى كمفاجأة ابتعاد مصر عن مسار بناء الديمقراطية والتفاهمات السياسية، وتوجهات الرأى العام تتشكل على وقع تصريحات المتحدث العسكرى ومطالبة القائد العام للقوات المسلحة بتفويض شعبى لمواجهة الإرهاب والعنف.