قامُوس الخُبثاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس الخُبثاء

نشر فى : الجمعة 9 أغسطس 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : الجمعة 9 أغسطس 2024 - 6:50 م

 لم يكُن التصرُّف الذي قامت به الشابة سوى مُحاولة خبيثة للإفلات من مَوقِف هي ولا شكَّ مُدانَة فيه. ادعت الإصابةَ بدوَار مُفاجئ بعدما كادت أن تتسبَّب في حادث سَير مُهول، واتجه جُلُّ الاهتمام إليها وإلى الاطمئنان على سلامتها؛ فيما لكزتها صاحبتُها مبتسمة ابتسامة صغيرة؛ لم يفهم معناها إلا مَن لم تخدعه المحاولة، وأخيرًا انفض الجمع والعبارة الخالدة على الألسنة: حصل خير.

* • •

الخبيث في قواميس اللغة العربية هو المكير صاحب الحيلة الواسعة، والعَمَل الخبيث هو المَكروه المُستقبَح، الفعل خَبُث بضم الباء ولا يحتاج مفعولًا به، والمصدر منه خُبث بتسكين الباء وكذلك خباثة، أما الخَبَثَ بفتح الخاء والباء فرائحة كريهة لا تُحتَمل.

* • •

بين الخُبث والدَّهاء رباطُ الحيلة والذكاء والفطنة. الدَّهاء هو حسن التدبير الذي يُسفر عن تحقيق المراد، والشخص الداهية هو هذا الذي يخشاه الآخرون لعظيم قدراته وشدة بطشه؛ ويقال عنه في كثير الأحيان: قَرصَته والقَّبر، والمعنى ألا نجاة منه. كان الألماني بسمارك سياسيًا داهية؛ أسَّس الرايخ الألماني الثاني و لُقِّب بالمُستشار الحديديّ، كذلك يرى كثيرون أن الرئيس الراحل محمد أنور السادات كان بدوره داهية سياسية رغم الموقع الذي احتله كداعية للسَّلام؛ فقد درج على التفكير في مسارات غير مطروقة والإتيان بما لا يتوقع الآخرون.

* • •

لا يمثل الخبيث كتابًا مفتوحًا تتأتى قراءته في بساطة ودون بذل الجهد؛ هو أشبه بصندوق مُغلَق يحوي عديد المفاجآت، وكثيرًا ما يَصفه الناسُ بأنه "مياه من تحت تبن"، والقصد أن عنده الكثير المَخفي؛ تجري العادة بألا يعرفون ما يُبطِن؛ حتى وإن كانوا مقربين، وبألا يتمكن أحدهم وإن سعى؛ من كَشْف أسراره.

 

* • •

ينخر الخبثاء مثل السُّوس أماكن وجودهم؛ دون أن يظهر لفعلهم في ساعته أثرٌ، وحين ينكشف الأمر ويظهر القلب الذي أصابه العطب والفساد يكون الوقت قد فات؛ مع هذا قد لا يكون الخُبْث في مُطلقه شرًّا؛ إذ أحيانًا ما يُسهم الخبيث بدور فاعل ومؤثر في تحقيق شيء من العدل، وفي إرجاع الحقوق لأصحابها المغبونين. يستخدم ملكاته في مواجهة الغاصب ويقابل الحيلة بما يكافئها، وغالبًا ما يتفوَّق في التخطيط. يُقال ما عجز الناس عن مواجهة شَخصٍ عتيّ مُتجَبّر: "لكلّ قويّ الأقوى منه"، والأقوى هنا قد لا يعني الأضخم جسدًا؛ بل ربما كان الأكثر خبثًا والأعتى حنكةً والأعظم مَهارة. 

* • •

عادة ما يتآمر الخبيثُ ويُدبّر ويصنع المكائد، ثم أنه يحتاط في فِعله كي لا ينكشف قبل الآوان. لا يُعلن عن نفسه أبدًا؛ بل يبقى ما استطاع مُستِتَرًا، يشاهد ما يجري من حوله ويراقب الأحداث في صمت وانتباه. يتكتم نواياه ولا يفشي ما لديه من مُلاحظات، وحين تأتي اللحظة الحاسمة؛ يكون من السهل حسمها لصالحه. هذا الذي يتكلم كثيرًا عادة ما يكون خائبًا لا يُخشى منه؛ يخطئ كثيرا ويفضح ما لا يجوز، يراه الناس عاريًا ويدركون أنه لا يحمل عمقًا، بل هو سطح مكشوف للجميع. 

* • •

ربما يقع فعل التخابُث في إطار المحاولة وحَسب؛ أيّ أنه لا يمثل طبعًا أصيلًا في المَرء أو خصلة مُتجذّرة، بل صورة مُصطنَعه وغير حقيقية. ربما يتخابث المرءُ ويوحي بغير طبيعته فيُشعِر المُحيطين به بالقلق ويدفعهم لاتخاذ الحيطة منه، وإعادة التفكير قبل إيذائه. هي حيلة قد تُصيب وتنجح في حمايته من المكائد، وقد تفشل إن انكشفت الحال وتبيَّن الناس أن من ظنُّوه مَرهوبَ الجانب؛ ليس إلا مُمثلًا تافهًا.

* • •

الفارق الرئيس ما بين الخُبث والمَكر أن الأول مكروه والثاني يمكن أن يغدو مَحلَّ تقييم. أكثر الكائنات الحيَّة وصفًا بالمَكر بعد البشر هي الثعالب، تتميَّز بالحذق والمخادعة والتعامُل الحَذِر، وهي لا تقع في الفِخاخ المَنصوبة بسهولة. شخصيَّة الثعلب المكَّار في الرُّسوم المُتحرّكة مَحبوبَة، فهو يتحلّى بخفّة دَمٍ لافتة وذكاء أكيد. ثعلوب ومثله كثير البَشر المَكَّارين؛ يتمتعون بالقدرة على خلق أجواء مَرِحَة من حولهم، يجلبون إلى مجالسهم الضحكاتِ ويُفجّرون المُفارقات والمَواقف المُمتِعة، ويبدو أن شخصياتهم الجذابة تشكل جزءًا من قدرتهم على نسج شباك المَكر وإحكامها. 

* • •

يَسلك الخَبيثُ في العادة مَسارات مُنحنية بدلًا من الطرق المستقيمة، التفاف ودوران وتشعُّب؛ لا خطوط واضحة قصيرة. يستلزم الإيقاع بين الزملاء والأصدقاء فيضًا من الخبث وشرًا دفينًا، والضرر الواقع يجلب لصانعه السعادة ويحضُّه على المزيد. أنجح أدوات العدو ما نصفه اختصارًا بفرّق تسُد؛ ولا أدلّ على هذا من الفُرقة التي أصابت أمة العرب والمنطقة بأكملها؛ إذ راح حلفاء الأمس يتراشقون اليوم بأحط الأوصاف، وإذ ترمى المقاومة الفلسطينية بما ليس فيها؛ فعار على الواصف وإهانة للقضية وشرف للباقين على العهد المدافعين عن الأرض.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات