يسألونني في الهاتف «كم من الوقت تحتاج»، أنظر في الساعة وأقول «سبع دقائق»، سبع دقائق تحديدا، ليس عشر، ليس خمس، سبع دقائق.
هناك نكات كثيرة عما يسمى بـ«الوقت المصري»، وهو أشهر إسهام لبلادنا الحبيبة بعد «القطن المصري»، ثم «التبغ المصري» في القرن التاسع عشر، من أول «الخمس دقائق» المصرية ، نهاية بتعبير «إن شاء الله» الذي يعني الأبدية بعون الله، هكذا كنت أضفي نوعا من الواقعية، وأعيد إيهاما تم كسره، وأقول بجدية «سبع دقائق»، ولكنني كنت مصريا ومصريا أصيلا، طبعا.
هكذا كنت متسامحًا في تقبل الدعابات عن «الوقت المصري»، وصراحة لم أشعر باستفزاز ما في الدعابات يدعوني لتغيير عاداتي الزمنية المصرية، أو كنت كسولا غير آبه كما ينبغي عليك التخيل، ولكنني اعترضت ضاحكا على باولو برانكا، الصديق العزيز وأحد كبار أساتذة الجامعة الكاثوليكية في ميلانو، عندما استخدم معي هذه الدعابة بعدما تأخرت عليه كثيرًا، واقفا بجوار عربته بميدان غير مميز في مدينة مظلومة بمجاورتها البندقية وفلورنسة. «الإيطاليون آخر من يحق له المزاح بشأن هذا!»، قلتها له ضاحكا وهو يسامحني بأريحية وطيبة.
وبالنسبة لإيطاليا، فقد صادفتني مسألة لغوية مبتكرة؛ في جنوب إيطاليا يستخدمون الماضي البسيط لوصف كل أحوال الماضي، بينما في الشمال هم يستخدمون الماضي التام لوصف كل أحوال الماضي. كان شيئا مثيرا للغاية بالنسبة لي، وقالت لي مترجمتي الإيطالية إن الموضوع قد بدأ يظهر في الشمال منذ الأربعينيات من القرن الماضي. كانت مسألة الأزمنة واستخداماتها تشغلني، كروائي مولع باللعب، ومن ضمنه اللعب بالزمن سرديا، وأتذكر أن همفري ديفيز، المترجم القدير والكبير لأعمال مثل واحة الغروب، باب الشمس، وعمارة يعقوبيان، كان يسألني بحرص كبير عن أي زمن أقصده في النصوص التي كتبتها، وهو قام بترجمتها. بالفعل لا يوجد لدينا تفرقة في الأزمنة، إلا بإضافة «قد» مثلا، هكذا، فإن أحببت أن تتكلم عن الماضي البسيط فتقول «ذهبت إلى النادي»، ولو أحببت أن تتكلم عن الماضي التام فسوف تقول «كنت قد ذهبت». هذا هو المفترض.
وما دمت غالبا غير مهتم بالكلام عن هذا، فأنت يمكنك ضرب الصفح عن كل الثواني التي تتجمع لتكون دقائق، وساعات، وأياما، وشهورا، وسنوات. من الطريقة المناسبة لفتح باب الحمام الذي هو دوما "معصلج"، أو باب الشقة الذي لا بد من جذبه وأنت تدير المفتاح بطريقة بعينها، أو باب الدولاب، أو النافذة، أو مقبض الدش. من طريقة ضبط هذا «البويلر» وهذا الشاحن، وهذا التلفاز بالتحديد ليكون متصلا بالكهرباء، القاهرة عامرة بأهلها، الذين يعيشون في مبانيها، وفي كل مبنى باب ومفتاح، وفي كل المباني بيوت، وفي كل بيت هناك باب وبويلر ومقابض ومفاتيح وأجهزة كهربائية. لا تبالي بالوقت ولا بالجهد، ومن قبلهما بالإتقان، لا تبالي بشيء. كنت أتذكر أغنية مصرية لم يحالفها التوفيق، لحسن الحظ، تقول «وفيها إيه لو قضيت العمر جنبي».
كانت لي رفيقة حياة إنجليزية، أحببتها مثل نفسي أو أكثر قليلا، وكانت تحزن، تحزن فعلا، على ساعات أربع من حياتها تقضيها ما بين مكان عملها بمدرسة دولية بالقاهرة الجديدة وبيتنا في قلب القاهرة. جاءت من مدينة كبيرة، بلى، ولكن فكرة أن تضيع أربع ساعات من حياتك في كل يوم، محبوسًا في عربة، هي فكرة مقبضة بالنسبة لها، ولي.
اليوم، يكمل علاء عبد الفتاح اليوم الحادي والعشرين من إضرابه عن الطعام، للحكم عليه بخمسة عشر عاما في السجن للوقوف في الشارع.
خمسة عشر عاما في السجن.
على الأقل نحن أحسن من العراق وسوريا.