تلك هى اللافتة الرابعة التى تدفعنى إلى الكتابة عنها. لافتةٌ تسدُّ عينَ الشمس وتُخجِلُها مِن النظر إليها. كبيرةٌ مِساحتها كما سابقاتها، تحتلُّ مَواقعَ حيوية مِن قلبِ العاصمة بما يؤكد أهميتها، ويعكس ما يُعَوَّل على محتواها مِن أثرٍ تتركُه فى العابرين.
مررت بها فى الطريق إلى المطار وكذا فى وسط المدينة، ولم تزل تُصيبنى كلَّ مرةٍ بالغمِّ والنكد كما هى العادة، دون أن أجد فى نفسى قدرة على تجاوزِها أو تجاهُلِها أو التكيُّف معها.
تحملُ اللافتةَ كلمتين لا ثالث لهما: TATWEER MISR. الأحرفُ لاتينية الشكلِ، عربيةُ المَنطوقِ، بينما المعنى يشقُّ القلبَ والعقلَ، فتطوير مِصر أملٌ قديم وأمنيةٌ عزيزة وهدفٌ يبدو إلى الآن مستحيلا كما طائر الرخّ.
ثمَّة شحٌ فى الموارد وضيقٌ فى ذات اليد وتراجُعٌ للإنتاج وانهيارٌ فى احتياطى النقد، ورؤيةٌ عقيمةٌ للحاضر والمستقبل على حدّ سواء، رؤيةٌ تعكسها اللافتة وتلخِّصها بمهارةٍ لا يُحسَدُ عليها صاحبُها؛ إذ هى فى رأيى خيبةٌ وأى خيبة.
***
«تطوير مصر» ليست جُملة تامة بل شِبه جُملة مُنتَزَعَة مِن سياقها؛ سياقُ اللغةِ العربيةِ المنبوذةِ، وسياقُ فِعلِ التطوير ذاته. المفردتان المكتوبتان باللاتينية والمفهومتان بالعربية تظهران على الناحيتين؛ وجه اللافتة وظهرها، أو فلنقل أن وجه اللافتة هو نفسه ظهرها لا فارق على الإطلاق، ولا أثر لكلمة عربية على الجانبين. لا أثر للُغةِ العربيةِ على مصر وتطويرها، ولا هى فكرة تأتى فى الحسبان، التطوير أجنبى الطابع، مُرّ المَذاق.
***
ثمَّة رابطٌ إلكترونى يحتلُّ أحدَ أركانِ اللافتة، دوَّنته فى مُفكرتى الصغيرة منذ أسابيع بعد أن راجعت الكلمات مرة واثنتين وعشرة. جلست إلى مكتبى وبحثت عن الموقع، فانفتحت صفحة بالاسم نفسه ولم يكن فيها حرفٌ عربيٌّ واحدٌ كما توقعت. قرأت المعلوماتِ المطروحة وضغطت العناوين التى ظهرت أمامى كلها طمعا فى العثور على تفسير؛ على سبيل المثال شركة غربية تعلن عن استثماراتها أو تسوِّق لبضاعتها، جهة أو شخص يمكن سؤاله عن ماهية التطوير وجنسية رأس المال وعن أسباب الانقلاب على عمود رئيس مِن أعمدة الهوية بكامل الفخامة والضخامة والإصرار.
قادتنى العناوين الأساسية مثل «رسالتنا» و«فلسفتنا» إلى صفحة واحدة مُتكررة لا تتغير مع الانتقال إلى عنوان جديد. الصفحة مكونة مِن فقرات ثلاث مكتوبة بدورها باللغة الإنجليزية، مع ذلك يلاحظ مُتَصَفِّحُ الموقع أن الأسماء المطروحة للمساهمين وأعضاء مجلس الإدارة هى أسماء عربية ولا شكّ، وإن كان معظمها مجهولا بالنسبة لى.
ثمَّة عناوينٌ أسفر الضغط عليها عن ظهور معلوماتٍ مختلفة، تلك هى المُتَعَلِّقة بمشروعات يُفترض أن تتطور مِصر مِن خلالها، وقد اقتصرت على اثنين: مشروع خليج فوقا، ومشروع IL MONTE GALA، أى مشروع جبل الجلالة؛ لا بالعربية ولا الانجليزية بل بالإيطالية.
***
تابعت منذ فترة قصيرة زيارة الحاكم للمشروع الأخير. تفقَّد الأعمال الإنشائية التى تجرى على قدم وساق فى جبل الجلالة، وأثنى على الإنجاز، ونشرت الجرائد المحلية صوره هناك. نشرت أيضا جريدةٌ يوميةٌ شهيرةٌ تحقيقا واسعا احتلَّ ما يقرب من صفحة كاملة، جاء فيه أن القوات المسلحة تعمل فى الجلالة وِفق المثلث الذهبى: الوقت والتكلفة والجودة. قالت الجريدة عن المشروع إنه سيُدِر المليارات ويوفر الأمان لحدود مصر الشمالية كونه يمثلُّ خطوة مِن خطوات تعمير سيناء. لم أفهم على وجه الدقة ما العلاقة بين المؤسسة العسكرية مِن ناحية، ورأس المال الذى تجاوز المليار جنيها ورجال الأعمال أصحاب الأسماء العربية، وتطوير مصر باستخدام اللغات الأجنبية من الناحية الأخرى.. صار الأمر فى رأسى أكثر تعقيدا وإبهاما.
ربما صار أيضا أكثر إيلاما فالنظام الحاكم يملك رؤية خاصة عن البناء والتطوير لا أظنها تبشر بخير؛ لا شكلا ولا مضمونا، رؤية ربما هى عصارة أفكار واهتمامات الصفوة الجديدة الصاعدة، صفوة المال التى كانت مُختبئة مكنونة إلى أن يحين وقت ظهورها والتى تطفو الآن على السطح شيئا فشيئا.
***
قد تظهر الأبنيةُ الضخمةُ والمشاريعُ الكبرى وتنتصبُ آياتُ الجمال على الخلجان والشواطئ غير المطروقة، لكنها ستبقى لخاصة الخاصة. الخاصة التى لا تعرف قراءة العربية ولا تنطق بها ولا تحبُّ أن تراها.
سائرة مِن طريقى المعتاد قبل أيامٍ معدودة، تفاجأت بتغيير اللافتة. كان لونها أزرقَ فصارت حمراء برتقالية، وكانت تحملُ كلمتَى Tatweer Misr، فصارت تحمل Il Monte Galala.