يصنع الخوف حاجزا هائلا بين المرء وأشياء كثيرة، حين يعلو هذا الحاجز ويتضخم على مدى السنوات يصبح كسره أو اختراقه شديد الصعوبة.
الفترة الأخيرة شهدت كسر حاجز الخوف التقليدى فى صور متعددة: الطالب الذى كان يرهب أستاذه فى الماضى أصبح أكثر جرأة وتصادمية، الابن الذى كان يخشى أباه لم يعد يعير غضبه أهمية كبرى. الأكثر بروزا من هذا وذاك هو الثغرة التى أحدثها الناس فى جدار الخوف القديم من السلطة وأدواتها.
يمكننا أن نحصى فى المرحلة الآنية عددا مدهشا من الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات التى يقوم بها أناس لا ينتمون لأحزاب أو منظمات ولا علاقة لهم تماما بالسياسة. يرفعون اللافتات ويبيتون على الأرصفة. أفراد وعائلات كاملة تفعل هذا وتظل على موقفها لأيام وليس لبضع ساعات قصيرة. الأمن المركزى لم يختف، قدرة الدولة على البطش المادى والمعنوى لم تتراجع. احتمالات الهزيمة فى ضوء المعطيات الحالية أكبر من احتمالات تحقيق أى انتصار وفارق القوة هو بالتأكيد لصالح النظام. رغم كل تلك المؤشرات السلبية يتوالى كسر حاجز الخوف وتتوالى الاحتجاجات: عمال ومهنيون وزُرَّاع وأشخاص لا تجمعهم مهنة واحدة بل يأتى بهم من هنا وهناك همٌَّ معيشىٌ مشترك. ما الذى حدث ليجعل الناس يتجاوزون الحاجز؟ ما الذى دفعهم للتقدم عدة خطوات سريعة إلى الأمام؟.
هناك معادلة تقول بأن الحرمان من الحقوق الأساسية فى وجود هامش ولو ضئيل من الحرية، هو بمثابة ظرف مُوات ومُشَجِّع على التعبير عن الرفض والاحتجاج. على الجانب الآخر هناك فرض يشير إلى أن بعض الشرائح والفئات الاجتماعية لا تتحرك أبداُ ولا تخرج عن الحدود المرسومة لها إلا حينما يصبح ظهرها إلى الحائط، أى حين تفقد القدرة على الاستمرار فى الحياة بكافة الوسائل والحيل. الحقيقة أن دافعا وحيدا لا يكفى للتفسير. فى ضوء سوء الأحوال المعيشية وارتفاع الأسعار غير المنطقى، تراجعت قدرة الكثير من الناس على التكيف والاستيعاب، وانعدمت فرص البعض فى البقاء على حد الكفاف. الأوضاع غير المقبولة والإحباطات المتعددة جعلتا هامش الحرية يتمدد عنوة، الوعود الزائفة وانعدام الأمل فى أى إصلاح حالى أو مستقبلى لم يتركا خيارات. أسهمت عوامل كثيرة فى إسقاط حاجز الخوف جزئيا.
الخوف شعور طبيعى لا أحد فينا لم يصادفه يوم من الأيام، لا أحد لم يتملكه خوف ولو للحظات عابرة أجبره على إلغاء فعل قد انتواه أو تغيير قرار اتخذه حتى لو كان يعلم أنه على صواب. نخاف حين ندرك أن ثمة أذى قد يصيبنا.. عقاب أو إهانة أو خطر أكبر من قدرتنا على المواجهة. نخاف كذلك من المجهول كوننا لا ندرك أبعاده ولا نعرف ما قد يحيط باكتشافه من عواقب وتبعات. فى الماضى كان الإنسان يخشى الطبيعة وتقلباتها أكثر مما يخشى أى شىء. تدريجيا انتقل خوفه من الطبيعة غير العاقلة إلى خوف من خطر أكثر ذكاء وعقلا: إلى بنى جنسه.
يفرز الجسم البشرى فى حالات الخوف الحاد مواد كيميائية شديدة القوة تنبه كل خلية فيه وتحفزها، تجعلها فى حال استنفار واستعداد لرد فعل وشيك. حين نخاف فإننا قد نختار مواجهة مصدر الخوف ومصارعته أو نفضل الانسحاب والفرار. ثنائية يعرفها العلماء باسم fight or flight response أى الاستجابة القتالية أو الهروبية. من المدهش أن الاستجابتين على الرغم من تناقضهما مبنيتان على إفراز نفس المواد الكيميائية فى الجسم. العامل الذى يرجح كفة استجابة على الأخرى ويدفعها إلى السطح هو وعى الشخص وخبراته وتجاربه السابقة وكذلك سماته النفسية.
إذا رجحت كفة الخصم جاء القرار بالهروب أو الاستسلام أما إذا وجد المرء نفسه فى موضع مكافئ أو أكثر تفوقا فإنه فى أغلب الأحيان يختار المواجهة.
الخروج إلى الشارع للمرة الأولى ومواجهة السلطة زحزح جزءا من جدار الخوف. النجاح النسبى فى التصدى إلى محاولات إجهاض الاحتجاجات أعاد بعضا من الثقة الغائبة. بناء على التجربة يُعيد الناس تقييم الأمور ويراجعون نظرتهم السابقة إليها.
مع توالى المواجهات يُعَادُ تشكيل الوعى وتظهر فروض جديدة يمكن اختبارها. يدرك الناس على أرض الواقع أن ثمة مبالغة فى حجم مخاوفهم وأن المثابرة وعدم الاستسلام يُولدان قوة إضافية ضاغطة، وأن ثمة مكاسب صغيرة يمكن الحصول عليها حتى مع وجود فارق فى الإمكانات بينهم وبين النظام بكامل عتاده، وأن انتزاع مكسب واحد يفتح الباب أمام المزيد. تدريجيا تتوارى فكرة الهروب من المواجهة وأمام مصدر الخوف يتوطد رد الفعل القتالى ويتطور ويصبح القاعدة لا الاستثناء.
ماذا يصيب المجتمع حين ينكسر حاجز الخوف؟ يخشى البعض من فوضى خارجة عن السيطرة ويرى آخرون أن الوضع الحالى هو الفوضى بعينها وأن القادم لا يمكن أن يكون أسوأ. أغلب الظن أن كسر حاجز الخوف بشكل عام بالإضافة إلى التمرد على كل آليات الضبط الاجتماعى سوف يقودان إلى أزمات ظهر بعضها كالتحرش بالفعل، لكنه يُفتَرَض للتجربة أن تصحح تلقائيا من أخطائها ومن مسارها وأن تستقر، بحيث يتحطم حاجز الخوف أمام مصدر القهر الحقيقى وليس أمام الحلقة الأضعف فى المجتمع.
الخوف فى بعض الأحيان بذرة صغيرة نرعاها داخلنا ونضيف إليها ونصنع منها حاجزا نفسيا كلما تراجعنا أمامه كلما ازداد حجما. هناك بالطبع صعوبة كبرى فى تجاوزه لكنها صعوبة البداية ما إن يتخطاها المرء حتى يجد الطريق أكثر يسرا وسهولة.