عن العُزلَةِ والتقارُب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن العُزلَةِ والتقارُب

نشر فى : الجمعة 9 أكتوبر 2020 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 9 أكتوبر 2020 - 9:55 م

خرج ترامب من المُستشفى العسكريّ حيث تلقّى العلاجّ من فيروس كورونا الذي تحداه على مدارِ الأشهُر الماضية؛ ليدعو الجماهيرَ إلى خَرقِ أسوارِ العُزلة الإرادية، وعدم الخوف مِن الإصابة. لا يعرف أحدٌ على وجه الدِقة تفاصيلَ مرض الرئيسِ الأمريكيّ، ولا يُمكن الجزمُ بصحَّة ما ذُكِرَ عنه ولا التنبؤ بما لم يُذكَر؛ لكن الأكيد أنه استأنفَ التحدي وأعلن ولو مؤقتًا خبرَ انتصاره.
***
لم ينعزل ترامب طويلًا ولا حَصَّن نفسَه كما فعل الرئيسُ الروسيّ ضد هجمات الفيروس المُحتملة؛ بل راح يسخر مِن الكمامةِ ثم يرتديها ويخلعها، وفي إيماءاته وتصرفاته ما يؤكد عدمَ قدرته على البقاء في فقاعةٍ تحجب عنه الأذى، وتمنعه مِن مُشاكسة المُحيطين به واستفزازهم. بعضُ الأشخاصِ لا حياة لهم دون تفاعُل وشَدّ وجَذب، لا يُفضّلون الانفرادَ بالذات ولا يُطيقون بُعدًا عن الآخرين وإن مَثلوا مَصدرَ خَطَر.
***
في مجلةٍ عربيَّة شهيرة؛ عثرت على مَقالة تمتدح التباعُد الاجتماعيّ الذي ألزمَ الكُتَّابَ والشُعراءَ والفنانين بيوتَهم، وجعلهم يُخلِصُون لإبداعِهم وينتجون ما لم تجُد به القريحةُ في أشهرٍ سابقة. ليست المقالةُ وحيدةً من نوعها فأكم مِن نُصوص راحت تُعدد مزايا التباعُد وتثني على العزلة وتجد في الإجراءاتِ التي اتبعها الملايين لتجنُّب الإصابة بالفيروس؛ فرصةً لإنجاز ما لم يُنجَز وتحقيق تقدم مشهود.
***
لم أجد في نفسي ما يُعضّد الفكرةَ ويُرحّب بها. كثيرون هم وكثيرات؛ مَن أعرفهم مِن قصاصين وشُعراء وكُتَّاب؛ عزفوا عن الكتابة مع أجواءِ الانعزال، وفقدوا الرغبةَ في التعبير عن شواغلِهم ودواخلِهم، وفضَّلوا الاستكانةَ لحالٍ مِن الكَّسل والخُمول. كثيرون هم مَن غادرتهم الحماسةُ، فتركوا القلمَ وحيدًا وجعلوا ينظرون إليه مِن بعيد؛ لا يدعوهم هاتفٌ داخليّ للكتابة وقد لزموا البيوت، ولا تتوارد الإبداعاتُ اللامعةُ على أذهانِهم وقد صارت خاويةً مِن الضوضاءِ، ولا تحرضهم أجواءُ التباطؤ والهدوء وطولُ الوقتِ وفراغه؛ على إنهاءِ نصٍ قديمٍ بدأوه.
***
الحقُّ أن العزلةَ الجسديةَ تتحول بمرور الوقت إلى عزلةٍ نفسية. الجالسُ في البيت يعزف تدريجيًا عن النشاطات العادية التي كان يُمارسها في يومِه مُنفردًا؛ خارجَ الجُدران أو داخلها. أعرف مَن كان يسير نصفَ الساعةِ كُل يوم بانتظامٍ، لكنه كَفَّ مع دعوات التباعُد الاجتماعيّ، ومن كان يسعى إلى ترتيبِ أوراقِه ومكتبتِه فيقتطع لهما ساعةً بعد العودة مِن العَمَل؛ لكنه أجَّلَ مَشروعَه بلا سبب بعد انضمامِه للجالسين في منازلهم. أعرف أيضًا مَن لم يتوقف يومًا عن الحديثِ في التليفون؛ لكنه راح مع خضوعِه للقيود، يؤجل المُهاتفاتِ عدا ما كان مُلحًا لا يُمكن التنصُّل مِنه. تنسحبُ جُدران الانعزال حول الروحِ كما هي مَنصوبة حَول الجَّسد؛ فتستحيل العزلةُ الجسدية عزلةً فكريةً ومعنويةً؛ فعلًا مزدوجًا قادرًا على التدمير.
***
بغضّ النظر عن مدى فاعلية البقاءِ بمنأى عن الآخرين في اتقاءِ للعدوى، فإن بعضَ الأنظمة القمعية قد أصَّلَت فكرةَ التباعُد الاجتماعيّ، وقدَّمتها في صورةٍ إيجابية. هذه الفكرة التي تخدم أهدافَ السيطرةِ والتحكُّم، وتُخفّف مِن ذُعر السُلطة مِن تقارُب الناس؛ وَجَدَت مَن يُحذّر مِنها، ويلفت النظرَ إليها، وقد نشرت بعضُ الصُحفِ لدينا -وإن على استحياء- عن تنبيهاتٍ أصدرتها شخصياتٌ عامةٌ مِن بلدان مُختلفة، تشير إلى استغلالِ الفيروس وتداعيات انتشاره مِن قِبَل ديكتاتوريات تسعى حثيثًا لإطالة أعمارِها ولا تستهدفُ إلا البقاء.
***
الإنسانُ بطبعِه كائنٌ اجتماعيٌّ، يحيا في شبكةٍ مِن العلاقاتِ والصِلات؛ قد يتقطَّع بعضُها وينفصِم عُراه؛ لكن أخرى تنشأ وتتوطَّد، وتحِلُّ مَحَلَّ ما بَليَ وتهتَّك. قد يترك البشرُ مُجتمعاتَهم التي نشأوا فيها إلى أخرى لأسباب مُتنوعة؛ حقيقيةً كانت أو مُصطنعة؛ لكنهم لا ينسلتون ليؤسّسوا وحدتَهم بإرادةٍ حرةٍ ورغبةٍ خالصة، لا يُحبّذ أحدُهم التنافُرَ الاجتماعيّ بغيرِ دافعٍ عَميق، وإلا كانت علامةَ مَرض.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات