فى كل زيارة لى لبيروت اسأل نفسى الأسئلة ذاتها: هل أحبها؟ هل أكرهها؟ لماذا تثير فى داخلى مشاعر متناقضة؟ لم أستطع قط أن أحدد شعورى تجاه بيروت من قبل، رغم زياراتى الكثيرة والمتكررة لها منذ انتهاء الحرب الأهلية رسميا منذ أكثر من عقدين، إذ إنه تتساوى فى قلبى مشاعر الحب والنفور من هذه المدينة المركبة ذات التاريخ المعقد. ففى كل زيارة لى لبيروت أكتشف طبقات من تركيبتها المعقدة لم أكن قد رأيتها من قبل، وأرى جمالها بنفس القدر الذى أرى فيه قبحها. هى كتلك اللوحات التى تظهر لنا أحيانا على شبكات التواصل الاجتماعى حيث تظهر رسمة نظن فى بادئ الأمر أنها وجه امرأة عجوز ثم ندقق فى الخطوط الخارجية فنرى أنها صورة لجسد فتى.
تفرض بيروت جمالها على من يزورها وخصوصا زوارها الجدد فتختلط عليهم موازين الجمال التى كانوا قد حددوها هم بأنفسهم، فبين مفاتنها التى تفردها بدلال وبين قسوتها التى تظهر فى أماكن غير متوقعة يخرج الزائر متسائلا عما حل به. ثم يتضح بعد عدة زيارات أن جمال بيروت يكمن فى التفاصيل وليس حصرا فى الشكل الواضح، أى أن هناك الكثير من الجمال ما بعد زرقة البحر وخضرة الجبل فى الربيع وبياض قمته فى الشتاء. بالنسبة لى أجمل ما فى بيروت قد يكون عمارة صغيرة اصفر لون واجهتها، تقف فى منتصف شارع متفرع من شارع رئيسى وتنحشر اليوم بين بناءين حديثين. العمارة عادة ما تكون مكونة من خمسة أو ستة طوابق لا غير، فتظهر وكأنها قزم بين الأبنية العالية. إطارات شبابيكها خشبية وليست من الألومينوم، قد لا يكون فيها مصعد إنما تجد كرسيا خشبيا بين الطوابق ليستريح من يصعد، ما زال سكانها ينشرون غسيلهم على البلكون وغالبا ما تسمع طرطقة الأوانى وتشم رائحة الثوم وصلصة البندورة يغليان معا فى قدر تتخيله على موقد قديم فى أحد المطابخ فى العمارة.
•••
فى نظرى، بيروت مدينة التناقضات دون منازع، ومن شبه المستحيل ألا تترك أثرا على من يزورها، إذ لا يمكن فى رأيى أن تسأل أحدهم عن رأيه فى بيروت فيهز كتفيه دون اكتراث. إنها كأؤلئك الأشخاص الحاضرين بقوة فارضين حديثهم على من حولهم دون أن تستطيع فعلا اتهامهم بالاستحواذ على الجو، صوتهم عالٍ وقصصهم ملونة لا تنتهى، سحرهم لا شبيه له مع إحساسك بسهولة انقلابه ضدك. هم كأشخاص تضطر أن تعيرهم انتباهك لأن لا مفر لك سوى أن تنظر إليهم حين تكون بحضرتهم، لكنك تحاول ألا تقع فى غرامهم لأنك تعلم أنهم خطرون، بيروت كصديق يشدك معه إلى مغامرات لم يكن من الممكن أن تخطر على بالك لكنك تعلم أن فى كل خطوة مع هذا الصديق قد تغلب الإثارة أو قد تقع من على قمة الجبل فتتكسر عظامك لكنك رغم ذلك تستمر بمجاراته.
جمال بيروت متجدد رغم أن تقدمها فى العمر يبرهن، كما على كثيرات من قبلها وبعدها، أن عمليات شد الوجه وحقنه، مع الوقت، تحول إحدانا إلى نسخة كاريكاتورية عن نفسها بدل أن تجمدها فى صباها كما نعتقد. بيروت كفيروز نراها تشيخ لكننا نتغاضى عن أثر الشيخوخة على صوتها ووجهها، هى كصباح فى سنواتها الأخيرة نحب ما نعرفه عن صباها حتى لو لم نعشه فنحاول ألا نضحك من فشل كثرة العمليات التجميلية على وجهها الذى نعلم كم كان جميلا فى أوجه. بيروت فعلا أخت صباح التوءم، روح كليهما شابة وحركاتهما فيها غنج نصفه تلقائى وجزء منه مدروس. هى مدينة جميلة ذكية عرفت على مدى قرون كيف تستمر بالحياة وكيف تقف على قدميها من جديد بعد كل صفعة تتلقاها. لا أعرف إن كان تشبيه بيروت بهكذا سيدة مجحف بحق المدينة أو بحق السيدات عموما، أى أنه قد يوحى بأنه متوقع من أى سيدة أن تتلقى صفعات ممن حولها وتبقى جميلة، وفى ذلك ترسيخ لأهمية الجمال على حساب أى شىء آخر أو ترسيخ لفكرة أن يدير أحدنا خده الشمال بعد تلقيه صفعة على خده اليمين.
•••
فى بيروت رائحة لا مدينة أخرى قادرة على خلقها، الزعتر فى الصباح حتى بعيدا عن فرن المناقيش، الملح حتى بعيدا عن البحر والصيف، التراب المبلل بالمطر حتى فى وسط شارع مكتظ بالبناء، البن المحروق ليس بالضرورة داخل المقاهى، الأرجيلة حتى دون وجود مدخن لها. لبيروت قدرة عجيبة على إلصاق روائحها بمن يزورها، فرائحة الخبز الطازج ترافقنى حتى بعد أن أصل إلى مكان إقامتى فى القاهرة. فى بيروت أجد أجزاء من هويتى المعلقة منذ خمسة سنوات، وبعضا من الثقافة المشرقية التى تقفز فى وجهى لحظة وصولى إلى لبنان، ففى بيروت أنا قريبة جدا من دمشق، لكننى بعيدة بعدا يكفى لأعامل بيروت بمعزل عن دمشق. بيروت لا شبيه لها فى جمالها وفى قسوتها، لا شبيه لها فى قدرتها على أن تحيا من تحت الرماد، أن تشرب باستمرار إكسير الحياة حتى لو نقاط معدودة منه يبقى الدم دوما يضخ فيها حتى حين يضخ خارجا من جروحها. بيروت ست الدنيا أحبها وأكرهها فى ذات اللحظة، بيروت مدينة لا أخت لها فى العالم.