بين السيد طونى والسيد ياسر.. فيلم زياد الدويرى مدبلجا - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين السيد طونى والسيد ياسر.. فيلم زياد الدويرى مدبلجا

نشر فى : الجمعة 9 نوفمبر 2018 - 11:55 م | آخر تحديث : الجمعة 9 نوفمبر 2018 - 11:55 م

فى دار سينمائية صغيرة تقع فى حى برلينى هادئ، شاهدت قبل أيام قليلة فيلم المخرج اللبنانى زياد الدويرى القضية رقم ٢٣ (إنتاج ٢٠١٧). حفزنى على مشاهدة الفيلم، وهو يحمل عالميا اسم «الإهانة» ويعرض حاليا فى دور سينمائية بالعديد من المدن الألمانية والأوروبية، الجدل الذى أثاره فى لبنان بسبب تناوله لبعض الدفاتر المغلقة للحرب الأهلية (١٩٧٥ ــ ١٩٩٠).
وفى سبيل ذلك، قبلت أن أشاهد الفيلم مدبلجا وناطقا باللغة الألمانية (والدبلجة تظل واسعة الانتشار فى ألمانيا عندما تعرض الأفلام الناطقة بلغات أخرى) عوضا عن الاستمتاع بالثراء الذى حتما تضفيه اللغة العربية بدارجتيها اللبنانية والفلسطينية الحاضرتين فى الفيلم على البناء الدرامى ــ فى مشهد من مشاهد النزاع القضائى بين الشخصيتين الرئيسيتين طونى حنا اللبنانى وياسر عبدالله الفلسطينى، يقول الأول إنه تيقن من الهوية العرقية للثانى ما إن استمع إليه متحدثا بدارجة فلسطينية. لم تنج من طغيان الدبلجة الألمانية إلا كلمة عربية واحدة، «سيد»! على امتداد المشاهد تنطق الأصوات الألمانية بكلمة سيد موظفة كلقب عندما يخاطب الرجال بعضهم بعضا، فالسيد طونى يتحدث مع محاميه السيد وجدى والسيد ياسر يطلب من رئيسه فى العمل السيد طلال أن يتفهم موقفه وفى قاعة المحكمة تصدر القاضية الرئيسة أسئلتها إلى المتنازعين بلقب سيد طونى وسيد ياسر. وأغلب الظن أن القائمين على الدبلجة الألمانية رفضوا ترجمة اللقب العربى «سيد» إلى النظير الألمانى «هر» لكون الألقاب لا توظف فى الألمانية إلا مع أسماء العائلات وليس الأسماء الأولى (كأن تقول السيد حنا والسيد عبدالله فى حالة شخصيتى الفيلم الرئيسيتين)، واستقروا على ترك «سيد» دون تغيير.
غير أن الدبلجة الألمانية لم تلغ استمتاعى بالفيلم الرائع، فكرا ومعالجة سينمائية وتمثيلا وإخراجا. من خلال شجار بين طونى حنا اللبنانى قاطن بيروت الشرقية (ذات الأغلبية المسيحية) وياسر عبدالله الفلسطينى المقيم فى مخيم للاجئين، ينقل «القضية رقم ٢٣» المشاهد إلى جرائم وآلام الحرب الأهلية وروايات الحق والباطل والمظلومية المتناقضة.
***
فى ١٩٧٦، تعرضت بلدة الدامور لهجوم وحشى من فصائل فلسطينية وارتكبت بحق سكانها مذبحة لم تتجنبها إلا عائلات قليلة قبلت التهجير والارتحال. يضع زياد الدويرى طونى حنا فى قلب هذه الجريمة، ويجعله ينجو منها بهروب محفوف بالمخاطر مع أبيه، ثم يفرض عليه بسببها كرها عميقا للفلسطينيين ولوجودهم فى لبنان يدفعه إلى اعتبار الرئيس اللبنانى الأسبق بشير الجميل صاحب المواقف الرافضة للوجود الفلسطينى والمتعاونة مع إسرائيل عندما غزت لبنان فى ١٩٨٢ بطلا قوميا (أغتيل الجميل فى سبتمبر ١٩٨٢ بعد أسابيع قليلة من انتخابه رئيسا للجمهورية) ويشجعه على الالتحاق بحزب القوات اللبنانية الذى يدعى الانتساب السياسى للجميل.
فلسطينيا، يصنع الدويرى من ياسر عبدالله تجسيدا دراميا للجرائم التى تعرض لها الشعب الفلسطينى من شتات وتهجير وحروب ومذابح منذ ١٩٤٨ وأيضا تجسيدا للجرائم التى ارتكبتها بعض الفصائل الفلسطينية المسلحة. فى البناء الدرامى للفيلم، درس الرجل الهندسة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة ثم عمل فى الكويت قبل أن يرتحل إلى الأردن مع بدء العمل الفدائى بعد هزيمة ١٩٦٧ ويجرف كغيره فى الصراع الأردنى ــ الفلسطينى ١٩٧٠ و١٩٧١. أثناء مراحل النزاع القضائى بين طونى حنا وياسر عبدالله، يخبرنا مشهد مفصلى فى الفيلم أن «السيد ياسر» عاش فى الأردن وكان نشطا بين صفوف الفصائل الفلسطينية واشتبك مع قوات الجيش الأردنى (محدثا إعاقة دائمة لأحد أفراد الجيش الأردنى) أثناء معارك أيلول الأسود التى أسقطت آلاف الضحايا وانتهت بتهجير الفصائل من الأردن إلى لبنان. يعيش الرجل فى لبنان الذى شهد القتل المروع للفلسطينيين فى مذبحتى صبرا وشاتيلا ومذابح أخرى تورطت بها القوات الإسرائيلية الغازية وفصائل متطرفة ودموية من مسيحيى لبنان، ويواجهه طونى حنا بذلك الماضى ــ الحاضر الأليم عندما يقول له فى مشهد مفصلى آخر «ليت شارون أبادكم جميعا!». يعيش ياسر عبدالله فى لبنان الذى يعمل به وهو المهندس صاحب الخبرة الواسعة «كملاحظ أنفار» فى عمليات بناء تقوم بها شركات لبنانية فاسدة، يقبل بوضع كهذا لأن القوانين القائمة لا تسمح له بالحصول على حق رسمى للعمل.
بالإرث الذى يحمله الرجلان يتحول شجارهما حول سقوط مياه متسخة من شرفة منزل «السيد طونى» على رأس «السيد ياسر» وإهانة لفظية وجهها الثانى إلى الأول، يتحول الشجار إلى نزاع قضائى تتوالى مشاهده وتتداخل به أطراف إضافية مثل المحامى وجدى وهبة المحسوب على القوات اللبنانية والذى يتولى تمثيل طونى حنا والمحامية نادين وجدى وهبة التى تدافع عن ياسر عبدالله وتقف قضائيا فى مواجهة أبيها. ثم تصير الأمور فى حبكة زياد الدويرى الدرامية إلى معركة سياسية وإعلامية شعواء ترتب شيئا من العنف وتهدد استقرار لبنان المهدد دوما. أثناء مراحل النزاع القضائى ومن خلال إظهار خلفيات المعركة السياسية والإعلامية، يتداول الدويرى على ألسنة أبطال فيلمه وعبر لغة أجسادهم (توظيف لغة الجسد يمثل علامة إجادة كاملة للفيلم) روايات الحق والباطل والمظلومية المتناقضة بشأن الحرب الأهلية اللبنانية ويشكك فى جدوى الصمت الذى فرضه المجتمع اللبنانى على ذاته ما إن انتهت الحرب فى ١٩٩٠.
***
بحرفية عالية وجراءة فى التعبير عن الرأى، يقرر «القضية رقم ٢٣» أن الفلسطينيين لا يحتكرون هوية «الضحية» ولا يمتلكون حقا حصريا للحديث باسمها داخل لبنان أو خارجها. فقوائم الضحايا تتجاوزهم باتجاه الطوائف اللبنانية المختلفة التى دفعت ثمنا بشريا باهظا للحرب، وقوائم المجرمين مرتكبى المذابح والجرائم ضد المدنيين تضم الفصائل الفلسطينية بجانب الفصائل المسيحية والدرزية والشيعية والسنية. فلماذا تتواتر إشارات لا تتوقف عن مذابح صبرا وشاتيلا، ويفرض الصمت على مذبحة الدامور ومذابح أخرى كان ضحاياها من اللبنانيين وارتكبتها فصائل فلسطينية دموية؟ يطرح الدويرى هذا السؤال الهام، ويترك فى البناء الدرامى لفيلمه الإجابة عليه مرتهنة بإرادة المجتمع اللبنانى وإرادة الفلسطينيين إنهاء الصمت والشروع فى حوار صريح حول «ما حدث» وحول روايات الحق والباطل المتناقضة بهدف التصالح مع الماضى والتمكين لعيش مشترك حقيقى.
فى ٢٠١٧، أنجز عرض «القضية رقم ٢٣» فى لبنان شرخا فى جدار الصمت وأنتج جدلا مهما بشأن التعامل مع الحرب الأهلية ومع ضحاياها ومجرميها، جدلا يظل بالغ الأهمية حتى وإن توارى سريعا. ولأن روايات الحق والباطل والمظلومية المتناقضة تخنق أنفاس المواطنين فى مواقع عربية عديدة وهنا فى مصر أيضا ولأن الإعلام بأوضاعه الراهنة لا يقدر على معالجتها، فإننا فى أمس الاحتياج إلى أعمال فنية كفيلم الدويرى لمناقشة المذابح والجرائم والانتهاكات بحرية وجراءة وأمل فى التصالح مع الماضى والحاضر بمآسيهما الكثيرة.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات