قبل ثلاث سنوات فاز كتاب «كنت طفلا قبطيا فى المنيا» للكاتب مينا عادل جيد بجائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب ولفت النظر إلى موهبة كاتبه الشاب القادم من قلب الصعيد وقبل أن ينتهى عام 2022 نشر مينا روايته الثانية «جزيرة إلخ إلخ» عن (الدار المصرية اللبنانية) والتى أعدها واحدة من أفضل الروايات التى قرأتها خلال الفترة الماضية.
ومنذ المقدمة الاستهلالية للرواية يضع الكاتب القارئ فى علاقة مع النص الساحر والمنطلق من افتراض فانتازى حول وجود جزيرة جميع سكانها من التوائم الملتصقة.
ويتتبع الراوى سيرة بطلها «طفو» صاحب مصنع السكر المسكر، والمنشغل بمشروع بحثى لإحصاء عدد الظرطات التى تنطلق من بطون سكان الجزيرة، لكن طفو يفاجئ وهو يوشك على غلق دكانه آخر الليل بزيارة من عجوز غريب يترك لديه أمانة عبارة عن شوال أو جوال يثير ريبة طفو الذى يطمع فى محتوياته ويأخذه إلى البيت لكنه يلتقى فى الطريق بشاب اسمه بونو يرغب فى التتلمذ على يديه لتبدأ مغامرة فك لغز صندوق وجدوه داخل الشوال.
فى كل مرحلة من مراحل البحث يظهر سؤال جديد، وعبر سردية ساخرة بوضوح نكتشف معنى المقولة التى أطلقها الفيلسوف داخل الرواية وتمسك بكافة دلالاتها وهى أن «بعض الأشياء الخيالية أكثر واقعية منك ومنى».
يتبنى الكاتب طريقة فى السرد التهكمى للتحايل على جميع البنى السردية المغلقة ويفضح نمطا تسلطيا لمفهوم البطل الذى يعرف كل شىء، ويظهره فى صورة كاريكاتيرية تبالغ فى تصوراته عن نفسه وعن الأدوار التى يؤديها فى هذا العالم الغرائبى، إنها كتابة على وعى تام بدور المحاكاة الساخرة فى العصف بالسرد الكلاسيكى وتقويض كل ما هو مستقر.
الميزة فى طريقة سرد مينا عادل تأتى من خياله الخصب والفريد فى صياغة مكونات عالمه من أول قدرته على الكتابة بلغة على حافة السرد الشفاهى وصولا إلى منتهاه فى مواجهة القمع ومقاومة حراس الخيال.
وعلى الرغم من فصاحة لغة الرواية إلا أنها تبدو قريبة إلى اللغة اليومية وبالتالى ينفى عبرها غرابة عالمه القصصى، لغة تبدو قريبة من الشعر لكنها لا تغيب دورها كلغة سردية فى المقام الأول لها وظيفة أساسية فى تقديم الحكاية كأن يقول مثلا (طلعت الشمس كأطفال بلا خطيئة) أو يصف البيوت قائلا (بيوت ضيقة كقلب خائف مسكين) وبالتالى نحن إزاء استعمال ذكى للشعر ولكن دون مبالغة أو إفراط.
ينتشى قارئ الرواية بنوع من الخيال الطليق الذى يستمد حريته من القدرة على تخليق كائناته بلا حسابات وتأتى هذه الكائنات للنص من مصادر تراثية عديدة وتصنع سبيكة متفردة لحكاية تقارب الحكايات الشعبية لكنها تشتبك بوضوح مع التراث السردى فى نمط ناضج من أنماط المحاكاة وتناوش واقعنا بوضوح، ولا تنفصل عنه، حيث لا تغيب الأسئلة الكبرى حول الحرية أو العدل والجمال وغير ذلك من القيم الجمالية المنشودة، وتحررها من اللغة الإنشائية وتتجلى بها فى معالجة غاية فى البساطة تمارس دورها الذكى فى «انتهاك» المؤسسات الكبيرة التى تحتكر وحدها عمليات إنتاج المعنى.
يستعيد المؤلف غرامه الراسخ فى تحدى «المؤسسات» بأنواعها المختلفة، لكنه يركز على سطوة المقدس الدينى وتحالفاته لأن ما يرغب فى تأكيده يأتى من مناكفة «ملاك الحقيقة المطلقة» ومثل البلياتشو فى الحكايات الشعبية يختفى مينا عادل خلف الكثير من الأقنعة ويلعب لعبته بمهارة فائقة فى تناسل الحكايات كأنما يلح على تأكيد أنها دورة من دورات الحياة تتكرر فيها المواجهة والصراع بين الدين والعلم وهى الفكرة المركزية داخل النص الذى لا تغيب عنه كذلك المجازات السياسية والإلحاح على ما قد ينتج عن التناقضات الطبقية من أزمات، فالإشارة واضحة للهوة القائمة بين أصحاب الأيدى الناعمة وسكان الطبقات الفقيرة ومثلها أيضا تبدو الاستهانة بمواقف «الطبقة المتأرجحة» والتأكيد على أن الكبار يتسامحون دائما مع الفساد من أجل استقرار الحياة، وهؤلاء هم من يمجد فى الحكاية استبداد الوعاظ من أجل شراء الوعد بمكان أفضل بعد الموت.
يستعيد الراوى ذاكرة البشرية ويتلاعب بمعاركها لكن لا يستهين بها، ويفعل ذلك بخفة الطفل وقدرته حين صرخ (أرى الملك عاريا).
والمؤكد أنه لم يكن يرغب فى معركة وإنما ينشد الحقيقة وبالمثل تأتى دوافع أبطال الرواية من ذاكرة طفولية خصبة تخلص تمام الإخلاص لجمال الكتابة ومتعتها.