أعترف بأن قليلا من الكتب هى التى يمكن أن تجذبنى لقراءتها والانتهاء منها فى جلسة واحدة، غالبا ما يكون كاتبها ممتلكا لقدرات سردية وتصويرية عالية، فضلا عن المادة المقدمة، فإذا كان ذا أسلوب بسيط سهل، يقدم خبرة إنسانية فريدة من منظور مختلف وزاوية نظر مدهشة حتى وإن كانت بسيطة أو مألوفة، فإنها فى النهاية تقود إلى قراءة ممتعة ومنتجة ومثيرة.
أتصور أن كتاب «بدون تأشيرة ــ 120 ساعة فى فلسطين المحتلة» لمحمد هشام عبية، ينتمى إلى هذا اللون من الكتب الممتعة، وبعيدا عن أن محمد هشام صحفى بالفطرة والموهبة والاكتساب وكل ما يقود فى النهاية إلى تجسيد نموذج الصحفى «الجوكر» الذى مارس كل أشكال وأنواع الكتابة الصحفية والعمل الصحفى، فإن هذا الكتاب الأخير الموقع باسمه يمثل من وجهة نظر انتقالة طيبة جدا ومهمة جدا فى مشواره مع الكتابة والتأليف وهو صاحب «رقم» معتبر فى الكتب التى ألفها أو نشرها خلال السنوات العشر الأخيرة.
«بدون تأشيرة» لن يزعج هواة التصنيف والباحثين عن هوية النوع السردى، فهو كتاب فى أدب الرحلات؛ صحيح أنه ليس الكتاب الأول لمحمد هشام عبية فى هذا المجال فقد سبقه «الكتاب الأمريكانى» الذى سجل فيه رحلته القصيرة إلى أمريكا قبل عامين، لكنه كتاب «فارق» بين مرحلتين فى الكتابة لدى محمد هشام.
116 صفحة من القطع الصغيرة وملحق صور بالألوان فى عشر صفحات، ومجموعة فصول قصار تتوالى بإيقاع سريع ولاهث، لكنه ممتع ومحفز على القراءة والتهام السطور بذات البساطة التى تشاهد فيها فيلما سينمائيا مثيرا ومشوقا، وهنا تظهر براعة المؤلف السردية وقدراته التصويرية التى تجعله ينقلك كقارئ لأجواء تفصلك عنها آلاف الكيلو مترات، بدءا من معاناة السفر والتأخر على موعد إقلاع الطائرة المتجهة إلى مطار عمان فيضطر إلى اللحاق بالطائرة التالية حتى لحظة المغادرة وانتهاء الرحلة القصيرة إلى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
بدعوة رسمية من رام الله توجه محمد هشام لزيارة تلك البقعة من الأرض التى تمثل الحنين الرخو والوجع المقيم فى قلب كل مصرى وعربى، يسافر عبية محملا بحنينه ووجعه وفضوله أيضا (ومن منا لم يحمل أطنانا من الشوق والفضول لزيارة فلسطين والغرق فى بحار عتاقتها وقداستها وإرثها الروحى الخالد).
سيقدم محمد هشام تجربة رائعة يستدعى فيها روح صحفيينا القدامى الكبار ممن كانوا يعتبرون أنفسهم فى خدمة القارئ، من حقه أن يرى ويسمع، أن يتذوق ويشم ويلمس بكامل حواسه ما تفصله عنه المسافات والحدود، كان هؤلاء الكبار ينذرون أنفسهم وخبراتهم وكتابتهم لهذا القارئ المفترض، الآن ربما بات الأمر صعبا مع الانفجار الكونى الحاصل فى التكنولوجيا الحديثة، بضغطة زر واحد سترى وتسمع وتعيش وتتأثر. هل هناك مجال لكتاب مطبوع أن يضيف جديدا أو يقدم شيئا ذا بال؟
نعم. هذا ما يحققه كتاب محمد هشام عبية، ولعل هذا هو السبب الذى حدا بالكاتب الكبير محمد المخزنجى أن يقول فيه ما سجله الكاتب بكثير من الاعتزاز والفخر على غلاف كتابه.. يتساءل المخزنجى: هل يمكن الكتابة عن الألم بروح حلوة؟
ويجيب «نعم. يمكن. وهذه الإجابة يضمنها لنا الكاتب محمد هشام عبية فى وقائع هذه الرحلة التى استغرقت 120 ساعة إلى القلب الفلسطينى، ونثرها فى أكثر من 16 ألف كلمة، وهو إنجاز تقنى مهم خاصة لو كان إيقاع الكتابة متسقا، والسرد يقدم لنا ما يثرى ويدهش، على امتداد النص، وقد نجح عبية فى إنجاز ذلك، مقدما لأدب الرحلة كتابا جذابا وجميلا على الرغم من عبوره على جسر الآلام إلى بؤرة وجعنا العربى الغائر، فلسطين المحتلة، وقد سرنى كثيرا أن الكاتب لم يفوت لحظة منذ بدأ الرحلة من القاهرة حتى حلوله برام الله وما حولها، ثم العودة، إلا والتقطها بعيون دهشة الرحلة الأولى، وهى دهشة مباركة لمن خبر كتابة نصوص الرحلة».
وضع المخزنجى يده على سر جمال هذا الكتاب «الروح الحلوة»، تلك الخصيصة التى عرفها مبكرا كإنسان وصحفى فى محمد عبية، يقول عنه: «لا أستعيد صورته إلا مصحوبة ببشاشة آسرة، وابتسامة طيبة لطيفة السخرية، وقد أشع كل ذلك فى هذا النص، فقدم لنا برهانا على إمكانية العثور على بريق الأمل، مهما ضؤل وبعد، فى نهاية نفق الألم، مهما طال وأعتم».
ولعلى أقول: إن هذا الكتاب نقل بهجة للمعاناة من أرض الإرث والدم ربما كان من الصعب على غيره أن يرى فيها أى بهجة فضلا عن أى روح مرحة وسعيدة.