المسئولية التاريخية للنخب المدنية - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المسئولية التاريخية للنخب المدنية

نشر فى : الأحد 10 مايو 2015 - 9:00 ص | آخر تحديث : الأحد 10 مايو 2015 - 9:00 ص

حينما تصبح فى موقع مسئولية أو سلطة أو قيادة، فسيكتب التاريخ عنك يوما ما. إن كنت توليت منصبا حكوميا أو جاءتك الفرصة لتقود حراكا مجتمعيا أو رأيا عاما، فأنت حتما مؤثر، كل كلمة أو تصرف أو قرار أو انحياز يفرق كثيرا فى حركة وطنك ومكانته وستحاسبك عليها الأجيال التالية لأنك إما سلمتهم وطنا مكلوما مشتتا بين الأمم أو وطنا راقيا يعرف الجميع مكانته وقدره.

تَغنّيك إذا بحبك لوطنك مع مقال تكتبه هنا أو قرار تأخذه هناك ليس كافيا لإقرار هذه المسئولية التاريخية، ولكن أفعالك وانحيازاتك على الأرض هى التى ستحدد إن كان شعار الوطن حقيقيا أم مجرد ساتر لتحقيق مآرب أخرى.

أكتب اليوم عن المسئولية التاريخية للنخب المدنية لسببين، الأول لأن هذه النخب كانت هى اللاعب الأكبر والأهم بعد ٣٠ يونيو وحتى الآن وخاصة بعد التخلص من الخصوم الإسلاميين أو محاصرة من تبقى منهم، والثانى لأنى شخصيا أؤمن بالمدنية كمستقبل لهذا البلد، ومدنيتى التى أدعيها تقف على مسافة واحدة رافضة لعسكرة الدولة أو أدينتها. ومؤمنة بأن السياسيين المدنيين المنتخبين ديموقراطيا المؤمنين بالتعددية، المنحازين للدساتير والقوانين والخبرات البشرية الوضعية النسبية كمحرر جوهرى من سيطرة كهنوت رجال الدين أو المتحدثين الرسميين باسم الله الخالطين للمقدس الإلهى بالمدنس البشرى، هى أمل هذا البلد.

•••

أخاطب اليوم ثلاث فئات محددة من هذه النخب المدنية، أما الفئة الأولى فهى تلك التى حصلت على مناصب سياسية فى الدولة أو الحكومة منذ يوليو ٢٠١٣ وحتى اللحظة، وخاصة القوى المدنية الإصلاحية ممن حصلوا على مناصب فى أول سلطة تنفيذية تشكلت بعد الإطاحة بمرسى ممن حضروا وشهدوا فض اعتصامات رابعة والنهضة وحادثة ترحيلات أبوزعبل وغيرها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تم ارتكابها فى هذه الفترة القاسية، وما بعدها وهم يتحملون مسئوليتها السياسية بحكم مناصبهم ومواقعهم. أما الفئة الثانية فهى الفئة التى شاركت ومهدت للحظة ٣ يوليو وتفويض ٢٦ يوليو أو شاركوا فى صياغة دستور ٢٠١٤ وهو الوثيقة التى قامت بمأسسة خارطة الطريق ووضع ترتيبات اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة كأساس لشرعية النظام السياسى الوليد. أما الفئة الثالثة والأخيرة فهى النخب التى ربما لم تشارك بأى مناصب رسمية لكنها استخدمت أقلامها ومواقعها للترويج لمقولات «مرشح الضرورة» أو راهنت على المؤسسة العسكرية كبديل سياسى، أو أيدت انتهاكات رابعة والنهضة أو غيرها من انتهاكات حقوق الإنسان بدعوى الحفاظ على الدولة من الانهيار.

لا أوجه الكلام للجميع قطعا، فهناك من هذه الفئات الثلاث من لايزال مصرا على أن انحيازاته كانت صحيحة وأن النظام الحالى يسير فى الاتجاه الصحيح، وأن مبادئ حقوق الإنسان موضة غربية لا نطيق ترفها فى مصر، وأن ما حدث من تجاوزات للقانون والدستور بل وللأعراف المجتمعية والأخلاقية طوال هذه الفترة يدخل ضمن بند «الضرورات التى تبيح المحظورات»، الكلام ليس موجها إلى هؤلاء ولكنه موجه إلى الإصلاحيين الحقيقيين داخل هذه الفئات الذين تقر ضمائرهم ونفوسهم بخطأ حساباتهم وانحيازاتهم فى لحظات تاريخية صعبة كانت شديدة التعقيد، كلامى إلى هؤلاء المدنيون الذين حاولوا وبذلوا جهدا اعتقادا أنهم فى الطريق الصحيح ثم لم يوفقوا بل وتعرض بعضهم لتشويه من قبل خدم النظام وصبيانه.

أوجه كلامى لهذه الفئة الأخيرة فقط وأقول إن الخطأ فى الحسابات وفى الانحيازات ليس نهاية التاريخ. ويجب ألا يكون حكما بالإعدام على السياسى أو الناشط فى المجال العام، فالحسابات السياسية معقدة بطبيعتها لكن مادام هناك إقرار بهذا الخطأ فلابد من الاعتراف به صراحة وتصحيحه لاحقا. أما عن الاعتراف فهو ليس فقط من قبيل المواقف الأخلاقية ولكنه أيضا جبر معنوى لضمير الوطن، هذا الأخير الذى تضرر بشدة من هذه المواقف وهذه الانحيازات.

أما عن التصحيح فهو من قبيل جبر الضرر ماديا والحفاظ على المبادى والأيديولوجيات والأفكار من قبح السياسة وتشوهاتها، هو بمثابة إعادة الثقة وتجديد الشرعية فى التيار المدنى المصرى وإعطائه دفعة جديدة من أجل مواصلة العمل والتغيير.

•••

إن المسئولية التاريخية للنخب المدنية التى لم تعد ترضى عن الأوضاع القائمة وقد شاركوا بدرجة أو بأخرى فى المعادلة التى أدت إليها تحتم على الجميع عدم الاكتفاء بالهمس خلف الكواليس وفى المجالس المغلقة بالخطأ أو بحسن النية الذى لم يدرك الواقع المعقد، ولا بعدم تقدير السلطات بالتضحيات التى تم تقديمها من أجل البلد، ولكنه لابد أن يخرج للعلن، ليس فى شكل اعتذارات فقط ولكن فى شكل اعترافات عن أسباب الانحيازات والمواقف المسبقة ولماذا كانت غير موفقة وكيف يمكن مواجهة آثارها السلبية والضغط على السلطات بكل السبل الممكنة لتغير مواقفها المؤسفة من قضايا التعددية والديموقراطية وحقوق الإنسان.

إن المسئولية التاريخية تحتم على كل من صفق أو تغاضى عن انتهاكات رابعة والنهضة وما سبقها أو لحقها الاعتراف بخطأ وعدم أخلاقية موقفه أو اتساقه مع مبادئ المدنية والليبرالية والديموقراطية ليس دفاعا عن جماعة سياسية أو مجموعة حملت السلاح أو قيادات تاجرت سياسيا بدماء أبنائها من أجل مظلومية تاريخية ولكن احتراما للنفس البشرية ورفض تصفيتها لمجرد الاختلافات السياسية أو الفكرية، هو إدانة للقتل الجماعى والتصفية الجسدية بدعوى الدفاع عن الوطن لأن الدوائر تدور ببساطة على الجميع.

إن المسئولية التاريخية تحتم على من روج أن الحل الأمنى وعسكرة الدولة هى سبل محاربة الإرهاب أن يعترف أن الحلول الأمنية وحدها لم تنقذ مصر من حرب أهلية ولا من إرهاب ولا من عنف سياسى وأن عسكرة الدولة لم تحم البلد أو تحفظ المؤسسة العسكرية، بل بالعكس عرضت الأخيرة لمخاطر جمة نتيجة الانخراط فى المعادلات السياسية والاقتصادية وتحول الجيش من حكم بين السلطات إلى فاعل سياسى أصيل وسلطة منخرطة فى علاقات القوة.

إن المسئولية السياسية للنخب المدنية تحتم عليها الكتابة والتصريح ضد سياسات النظام الإقصائية وضد انتهاكات الداخلية وضد الموقف المعقد للقضاء، وضد السجن الاحتياطى المفتوح على مصراعيه لتأديب المعارضين، عليهم أن يكفوا عن الهمس والتندر وإظهار الاعتراض الصريح على عمليات التخلص الممنهج من كل مظاهر السياسة عبر تأميمها بواسطة أجهزة الدولة الأمنية، عليهم الوقوف ضد قوانين الانتخابات البائسة وضد هيستريا الإعلام القميئة، أليست هذه هى مطالب ٣٠ يونيو فى الأساس؟ فماذا تغير؟

•••

إن المسئولية السياسية للنخب المدنية تحتم على كل من شارك فى أعمال لجنة الخمسين التى صاغت دستور ٢٠١٤ أن يصدروا بيانا ضد انتهاكات الدستور بواسطة القوانين واللوائح الحالية.

عليهم أن ينشروا مذكراتهم، نقاشاتهم، محاضر جلساتهم التفصيلية ويقولوا صراحة هل قانون معاقبة المضربين يتفق مع الدستور؟ هل قانون التظاهر يتفق مع الدستور؟ هل باب الحقوق والحريات مفعل؟ هل الحبس الاحتياطى بالفعل يعمل لمصلحة الوطن؟ هل قصدوا بالمادة الانتقالية التى تتحدث عن ستة أشهر كحد أقصى لإجراء الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية من تاريخ إقرار الدستور كان المقصود بها أن تمتد الفترة لثمانية عشر شهرا، وربما تصل إلى سنتين أو أكثر؟ مسئوليتك الوطنية لا تقف عند حد بذل جهد كتابة الدستور، ولكنها تمتد لبذل نفس الجهد لتنفيذ ما جاء فيه من مواد أعطت شرعية للنظام، وإلا فأنت شريكا فى الانتهاكات بالسكوت، فلماذا لا تتكلمون وتتخذون موقفا جماعيا يعفيكم من المسئولية التاريخية؟

تتطلب المسئولية التاريخية أخيرا وليس آخرا الاعتراف بأن خلط السياسة بالدين لم يتوقف بل زاد ووصل إلى معدلات فاقت ماقبل ٣٠ يونيو تحت دعوى قيام الرئيس بعمليات إصلاح دينى لم نر من آثارها سوى استخدام الشريعة والكنيسة لتبرير الانتهاكات وتمريرها. تتطلب المسئولية التاريخية حركة مدنية جديدة لا تقف عند حد الاعتذار ولكنها تشكل قوى ضغط مجتمعى وسياسى على تصرفات السلطة الحالية فإما أن تصلحها أو أن تدفعها لتحمل مسئوليتها أمام الجماهير، التى تتغنى دوما بمصلحتها كمبرر لأى إجراءات استثنائية.

•••

لا أعلم ماذا تنتظرون؟ هذه المواقف ستزيد من صلابتكم ولن تنتقص منكم أبدا، كما أنها ليست تنازلات سياسية للخصوم ولكنها مواقف فى طريق العودة للطريق السليم وللمبادئ المدنية الديموقراطية الحقة. هى إقرار بمسئوليتكم التاريخية التى لن تسقط تقادما عن كل ما تم وسيتم، مسئوليتكم التاريخية تطلب منكم موقف تاريخى قد يعرضكم لأخطار أو يسحب منكم مزايا أو حماية ولكنه سيحميكم من حكم قاسى للتاريخ عن هذه الفترة العصيبة من عمر مصر، وسيكون حتما لمصلحة الوطن ولو بعد حين.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر