راح الحارسُ يُطارد بعضَ الصِبية ويسبُّهم، فلما سأله ساكنٌ عن السَّبب؛ قال إنهم يقذفون الشجرة بالحِصي، لتسقطَ منها حباتُ التوت وقد طابت وبان منظرها شهيًا مُغريًا. سمعت الحوارَ وشردت بعيدًا. للحقّ لم يكن أطيَب من تلك الحبَّات التي تتناثر بفناء البيت القديم حول شجرة عتيقة؛ تُغرِق الأرضَ وتصبُغها بلونٍ بنفسجيّ داكن، فنخرج أطفالًا لالتقاطها، أو نصعد بعضَ الأفرع القريبة لنقتنصَ الطازج كبير الحجم منها، ونضعه مباشرة في أفواهنا؛ دون أن تأخذ منه مياه الغسيل حلاوته. قُتِلَت الشجرة منذ أعوام وتحوَّل التوتُ إلى سِلعة مُرتفعة الثَّمن، ولم يَعد التسلُّق ضِمن الهواياتِ المُمكنة.
• • •
يأتي الفعلُ طابَ في قواميس اللغة العربية بمعنى حَسُن وراق، فإذا طابت الثمار؛ كان القصدُ أنها نضجَت وباتت حلوةً صالحةً للتناول، وإذا طابت العلةُ فقد شُفيَت، أما إذا طاب المزاجُ فقد خلا مما يعكِّره. الفاعلُ طائبٌ والمصدر طِيبةٌ، وثمَّة فعلٌ آخر قريب الشبه هو طيَّب؛ بتشديد الياء وفتحها؛ فإذا قيل طيَّب الله ثراه؛ كان القول نوعًا من ذكر الراحلِ بالخير والدعاء له والترحُّم عليه، أما إذا تطيَّب الواحد منا فقد تعطَّر والطِيب رائحةُ جميلة، والطيّبات هي الرزقُ الحلال، وأما الشَّخصُ الطيِّب فذو الخُلُق السَّويّ الحميد.
• • •
يُقال عن الطيِّب في العادة إن له قلبًا كبيرًا، والقصد قدرتًه على استيعابِ تصرُّفات الآخرين؛ دون أن يغضبَ أو يتَّخذَ موقفًا حادًا. يُسامح ببساطةٍ وتصفوُ نفسُه في سُرعة ولا تحملُ كدرًا. لا يُعاند كثيرًا، ولا يخشى أحدٌ الاقترابَ منه أو يتوجَّس من ردّ فعله. الحلم والصبر وسعة الصدر؛ من صفات الطيب ولا شكّ؛ لكن المأثورَ الحكيمَ يُنبّه: اتقِ شرَّ الحَليمِ إذا غَضَب، والنصيحةُ في محلّها؛ فغضبُ الحليمِ يأتي عارمًا، ولا يعني صمتُه الطويلُ وعزوفه عن الردّ أنه ضعيفٌ كَسير، بل يمنعه طبعُه من التجاوز ويدفعه للتروّي، فإن فاض الكَّيلُ أخيرًا؛ صارت الطيبةُ بركانًا.
من الأساتذة من له سُمعةٌ طيبةٌ بين طلابه؛ يُساعد الضعيفَ ولا يضنّ بعلمِه ولا يتعمَّد إهانةَ من هم أقل منه معرفة ومكانة؛ فإذا جاءت سيرته في جمعٍ، لقي من الإشادة والقبول ما يطرب له الوجدان. طيِّبُ الذِكر يَسعد بمرآه الناسُ، ومثله طيبُّ الأصل والمَنبت.
• • •
يحدث أن يأتيَ أحد المارةٍ في الشارع بحركاتٍ أو تلفظات عجيبة، وأن يتساءلَ الآخرون عما به؛ فتجيء الإجابةُ من طرف يبدو مضطلعًا على حاله: دا راجل طيب. بعضُ المرات نقول عن امرئٍ مُشتَّت العقل، هائم، يطوف بعيدًا عن الواقع؛ إنه رجلٌ طيبٌ أو على باب الله، والمراد بالقول الذي يحمل في باطنه معنى مُتوافق عليه؛ أن يتركه الناس لعالمه ويكفوا عن مضايقته.
• • •
طابت أوقاتك؛ أي صلحت وامتلأت بكل فائدة. هي تحية لطيفة لا نستعملها كثيرًا، على العكس من الديباجة الشهيرة: "تحية طيبة وبعد" التي نلوذ بها في مخاطباتنا الرسميَّة، والحقُّ أننا نستخدم من حصيلتنا اللغوية أقلَّ القليل ونتكاسلَ عن التفكير، رغم أننا نختزن في ذاكراتنا كلماتٍ بلا حدود، تصِفُ أحوالَنا بدقة؛ لكنها لا تجد الطريقَ لألسنتنا.
• • •
كثيرًا ما نسمع عبارة "الطيبون للطيبات"، ويكافئ هذه العبارة المثل الشعبي "الطيور على أشكالها تقع"؛ لكن الحكمة الحاضرة في هذه أو ذاك، قد لا تتحقق على أرض الواقع؛ فأكم من طيبون صادفهم حظٌّ عسيرٌ مع خبيثات، وأكم من طيباتٍ أوقعتهن الحياةُ في حُفرٍ عميقة.
• • •
أقرب عباراتٍ التهنئةٍ إلى اللسان هي "كل سَنة وأنت طيّب"؛ نستخدمها في المناسباتِ العامة وأعيادِ الميلاد والزواج وغيرها؛ لكنها قد تقال أيضًا على سبيل المجاز في ظرفٍ شديد الاختلاف؛ كأن يريد القائل نفي إمكانية حدوث شيء ما. كلّ سنة وأنت طيِّب قد تعني في حينها أن ما تفكرَ فيه بعيدٌ، أو أن أوانه قد فات، وأنه على الأغلب لن يتحقق.
• • •
تعني كلمة "طيِّب" في أحاديثنا الدارجة "موافق". أغلق النوافذ: طيِّب، أحضر كوبَ ماء:ُ طيِّب، وإذا دقَّ البابُ دقًا متواصلًا هرع إليه من في البيت قائلًا: طيِّب هي الدنيا طارت؟ والقصد أنه سمع جيدًا وأنه قادم وليس على الطارق أن يتعجَّله. هناك أيضًا "طيِّب" بمعنى سأريك ما يمكنني عمله؛ وتلك صيغةٌ تهديديَّةٌ لا تُدرَك إلا من خلال السياق الذي تُستخدَم فيه، وكذلك من خلال لغةِ الجَّسد التي تُوحي للسَّامع بما سيلقاه؛ غالبًا ما تأتي الكلمةُ مع هزَّة رأسٍ مُتوعِدة، وزمَّة شفتين عازمةٍ على التنفيذ.
• • •
أطيَب مذاق للقهوة يمكن الحصول عليه ما برح طالبها مشتاقًا لها، متلهفًا على ارتشافها، والحق أن استقبالنا لكثير الأشياءِ يتوقَّف على مِزاجنا؛ فإن كان لطيفًا طابت لنا الدنيا بما فيها، وإن كان عصيبًا متوترًا تبدَّت الأمور كلُّها سيئةً تعيسة.
• • •
قدَّم عبد المنعم مدبولي "طيّب يا صبر طيّب" من كلماتِ مرسي جميل عزيز ولحن كمال الطويل، والأغنية التي ظلَّت حيَّةً إلى يومنا هذا من فيلم "مولد يا دنيا" الذي أخرجه حسين كمال عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين، ليمثل تجربةً مُغايرةً لا أظنها قد أحرَزَت نجاحًا كبيرًا؛ رغم ما طرحَت من أفكارٍ عميقة.
• • •
كثيرًا ما يقع الشَّخصُ الطيِّب سليمُ الطويَّة في شراك الآخرين، ومن هنا نشأت تعبيراتٌ مِن قبيل: "طيِّب وعلى نياته"، وكذلك "طيِّب وخائب"؛ مُقرنةً حسنَ الظنّ والبراءةَ بالسذاجةِ والعجز عن تمييز الصِدق من التلاعب والخداع. حين يكون الفرد طيبًا؛ يجد في العادة من ينبهه قبل الزلل، أما حين يكون الجَّمع كلُّه طيبًا ساذجًا؛ فإن السَّقطةَ تغدو مُدويةٌ والاستفاقةَ آجلة؛ لكنها لا تُبقي ولا تَذر.
• • •
قدَّم سرجيو ليون فيلم "الطيب والشرير والقبيح" في ستينيات القرن العشرين، ويخوض أبطالُه الثلاثة معاركَ كثيرةَ أثناءَ الحربِ الأهليَّة الأمريكية، في سبيل العثور على ثروةٍ مدفونة. الطيِّبُ في الفيلم ليس بطيّبٍ حقًا؛ لكنها الطِيبةُ النسبيَّة مُقارنة بالآخرَين، وعلى كل حالٍ فإن الشَّرسَ والقبيحَ كليهما يُعدَّان من الطيّبين في زَمننا هذا؛ بعدما قرَّرنا أن نُجسّدَ ما تعجزُ السينما عن التفكير فيه. انهارت ضمائرنا وتحلَّلت مبادئُنا، وباتت شراستُنا أعظمَ وأدهى، كما فاضَ قبحنا عما يُمكن احتماله.