هى أشبه بالعوالم المنفصلة تلك السياقات والمساحات والخانات التى نتحرك بها كمصريات ومصريين فى المجال العام.
وانفصال عوالمنا يتجاوز التناقضات الجذرية بين مؤيدى الحكم وممارساته وبين معارضيه، بين مبررى إماتة السياسة واختزال شئون المواطن والمجتمع والدولة فى القضايا الاقتصادية والاجتماعية وبين رافضى المقايضات السلطوية (الخبز والأمن نظير الحق والحرية) والمدافعين عن إحياء السياسة كنشاط سلمى وحر وتعددى وتنافسى وجهته هى الصالح العام وعن إخراج مصر من وضعية الديمقراطية الغائبة، بين المتاح لهم السيطرة على المجال العام بسبب تأييدهم للحكم وتبعيتهم للنخب الاقتصادية والمالية المتحالفة معه وبين الباحثين يوميا عن التحايل على مساحاتهم المحدودة وخاناتهم الصغيرة والإبقاء على تواصلهم مع الناس فى وجه ضجيج مؤيدى الحكم، بين من ينكرون حدوث انتهاكات للحقوق وللحريات أو يقللون من شأنها أو يبررونها كعنوان تطبيق منضبط للقانون وإجراءات عقابية مشروعة وبين من يرون فى قضايا الحقوق والحريات عنوان السلطوية الجديدة وفى الانتهاكات نزوع صريح للقمع بغية فرض إرادة الحاكم الفرد وإخضاع المجتمع والمواطن ــ وبالقطع التجمعات الطوعية للمواطنات والمواطنين فى المجتمع المدنى.
يتجاوز انفصال عوالمنا جميع هذه التناقضات الجذرية، ويدفع المجال العام المصرى باتجاه فقدان شبه كامل للغة الإدراك والقيم والأفكار المشتركة التى لها وحدها أن تمكنا من النقاش العقلانى والحوار الرشيد. وليست دلائل كارثة فقدان اللغة المشتركة بالقليلة؛ 1) من تصاعد العنف اللفظى فى كتابات ومداخلات ممثلى المواقف المتناقضة وتعويلهم المتزايد على مقولات التخوين والتشويه والتسفيه التى لا يقتصر توظيفها على مؤيدى الحكم ومبررى السلطوية الجديدة بل يتورط فيها بمكارثية عكسية الاتجاه بعض المدافعين عن الحقوق والحريات، 2) إلى تدنى التراكيب اللغوية المستخدمة إلى غياهب نزع الإنسانية عن «الآخر» والتجريد من كل قيمة أخلاقية وعقلية وكيل الاتهامات بإسفاف ندر فيما سبق حدوثه فى المجال العام، 3) وبينهما الإنكار الحاد والمتبادل لظواهر مجتمعية يستحيل إنكارها إلا حين يعطل العقل وتعطل الرشادة ــ لدى مؤيدى الحكم لا اختفاء قسريا لبعض المواطنات والمواطنين ولا تعقب لبعض الطلاب والشباب ولا قمع بل تطبيق للقانون، لدى بعض أطراف الحركة الديمقراطية المصرية، لا إجرام إرهابيا ولا عنف ولا تحديات أمنية بل سوق لأمور وهمية لتبرير السلطوية وحكم الفرد، بينما الحقيقة الوحيدة هى أن الاختفاء القسرى يتكرر وأن ضحايا الإرهاب والعنف يتساقطون على نحو يومى.
موضوعيا، يعمق الفقدان شبه الكامل للغة الإدراك والقيم والأفكار المشتركة فى المجال العام المصرى من أزماتنا الراهنة التى يستدعى احتواءها/ الحد منها/ التغلب عليها 1) إدارة نقاش عقلانى وحوار رشيد وهادئ بين أصحاب المواقف المتناقضة، 2) الاعتراف بأن حكم الفرد والسلطوية الجديدة وطغيان الأمنى جميعها عوامل ستحول دون تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية حقيقية ومستدامة وستواصل مراكمة المظالم والانتهاكات، 3) التسليم بأن العمل السلمى من أجل إيقاف المظالم والانتهاكات لا يعنى تجاهل أهمية القضايا الاقتصادية والاجتماعية ولا تجاهل تحديات الإرهاب والعنف، 4) تثبيت استحالة الشروع فى صناعة توافق عام حول أولوية النقاش العقلانى والاعتراف بعجز السلطوية والتسليم بحتمية التعامل الشامل مع أوضاعنا المصرية ثم إقرار كل ذلك قانونيا ومؤسسيا وواقعيا دون حضور حد أدنى من اللغة المشتركة وحد أدنى من الامتناع عن التورط فى العنف اللفظى والمكارثية المتبادلة. أخلاقيا وإنسانيا، يصدم الفقدان شبه الكامل للغة المشتركة ويرتب أن يطرح الكثير من المصريات والمصريين المشاركين فى المجال العام وعلى نحو متكرر سؤال ولماذا نواصل المشاركة وكل هذه الرداءة تحاصرنا؟
غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر