إلى أحمد وعمرو وعم خميس.. بعلم الوصول - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلى أحمد وعمرو وعم خميس.. بعلم الوصول

نشر فى : الجمعة 10 يونيو 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 10 يونيو 2016 - 9:54 م
أما الأول فهو الصديق العزيز أحمد الذى أمضيت معه من الوقت بين ٢٠١٣ و٢٠١٥ أكثر من أى إنسان آخر. لم يكن أحمد مجرد سائق للسيارة التى كنت أذهب بها إلى العمل كل يوم، بل كان الشاهد الرئيسى على تفاصيل حياتى ما أن أتجاوز عتبة البيت ومصدر للتواصل بينى وبين الحياة الحقيقية لأغلبيتنا فى مصر.

حاورنى أحمد يوميا فى القضايا التى تتناولها مقالاتى، وسجل دوما العديد من الملاحظات النقدية إن بشأن الصياغة اللغوية التى تحتاج لشىء من التبسيط أو فيما خص ضرورة الالتفات إلى الصعوبات المعيشية التى تواجهها أغلبيتنا وتفرض عدم قصر الكتابة اليومية على حقوق الإنسان والحريات. قص على أيضا يوميا ملخص «حديث المساء السابق» الذى أنتجته البرامج الحوارية وبرامج تليفزيونية أخرى كان هو يتنقل بينها طلبا لمعرفة ما يدور حوله، وبحثا عن حقائق ومعلومات بشأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قبل غيرها، ورغبة فى المشاركة فى «الكلام عن السياسة» مع أهله وزملائه.

معه شاهدت كيف انتقلت فئات شعبية مؤثرة من مواقع التأييد الكاسح لحكم ما بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ وقبول التبرير الفاسد لانتهاكات الحقوق والحريات وتداول مقولات الكراهية ونظريات المؤامرة إلى خانات رفض الظلم الذى اتسعت مساحته، والارتياب من «عودة الشرطة» إلى سابق عهدها والعزوف عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع فى أيام الاستفتاءات والانتخابات بعد أن عادت تلك أيضا إلى سابق عهد النتائج المعلومة سلفا والهيمنة الأمنية. ومعى طرق أحمد بعض الأبواب التى لم تكن أبدا على خريطة حركته الاعتيادية ــ كدار القضاء العالى ومجلس الدولة أثناء تقديم ومتابعة الطلبات المتعلقة برفع المنع من السفر فى ٢٠١٤. وهالته وقائع بعض المظالم والانتهاكات التى دأب «حديث المساء السابق» على إنكارها وتخصصت بعض الأبواق التليفزيونية للحكم فى تسفيه المدافعين عن ضحاياها، بينما كنا نصطدم بها معا فى «اليوم التالى» وفى سياقات متنوعة ــ كمشاهد لأمهات افترشن طرقات دار القضاء العالى لاستجداء معلومات عن مصائر وأماكن أبناء اختفوا وكتعقب بعض الأصدقاء المحترمين من الأساتذة الجامعيين والصحفيين الذين لم ير أحمد منهم سوى الأخلاق النبيلة ولم يسمع منى بشأنهم غير الإشادة بتمسكهم بالتعبير الحر عن الرأى.

أحمد، ولن أنسى له ما حييت إخلاصه ومودته وصدق مشاعره التى دفعته إلى تأجيل عقد قران ابنته حتى ينقضى عام كامل على رحيل والدتى عن دنيانا وأسالت دائما دموعه عندما كنا نودع ولديى فى مطار القاهرة فى كل مرة يغادراها ويتركانا ليعودا إلى برلين، كانت له عبارة أثيرة يرددها كلما دنا منا شهر الصوم وأتذكرها أنا الآن بعد أن عدت للصيام بعيدا عن الدار والأهل والأحبة. «القلب مستنى رمضان بفارغ الصبر يا دكتور»، كان يكررها كثيرا ويتبعها بكلمات عن النفس التى آن لها أن تتطهر أو الجسد الذى آن للعبادة أن تريحه من شىء من آلام العوز والظلم والعجز.

***
أما عمرو فهو موظف للأمن فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة (القاهرة الجديدة)، وكان يتولى مع زملائه أعمال التفتيش والتثبت من بطاقات الهوية الشخصية والبطاقات الجامعية فى البوابة رقم ٤ (تحديدا، كانت مهمته الإشراف على الوردية الصباحية أو المسائية). توثقت علاقتى بعمرو بين عامى ٢٠١٣ و٢٠١٥ أيضا، عندما أصبحت الجامعة الأمريكية مكان عملى الأساسى وانتظم وجودى بها معظم أيام الأسبوع.

عمرو وزملاؤه، وأذكر منهم العزيزين محمد وعبدالله، ينتمون إلى الأغلبية الساحقة من الشباب الذين حصلوا على قسط جيد من التعليم، وسعوا سريعا إلى الالتحاق بسوق العمل لمساعدة أهل أرهقتهم الظروف المعيشية الصعبة وقبلوا بالوظائف المتاحة دون طويل انتظار للوظيفة المناسبة للمؤهل التعليمى، ولا يملكون سوى أحلامهم الجميلة لبنات وأبناء يريدون لهن ولهم حظا أوفر من التعليم ومن الحياة الكريمة. وبجانب أحلامهم لأسرهم لم يبتعد عمرو وزملائه عن الحالة العامة للمصريات والمصريين، فارتفع سقف توقعاتهم بعد يناير ٢٠١١ وتوالت إحباطاتهم إن بسبب تدهور الظروف المعيشية أو بفعل غياب التغييرات الإيجابية فيما خص قضايا الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية التى كانوا يلمسون حقائقها فى تعاملاتهم المباشرة مع السلطة فى الأحياء وأقسام الشرطة أو فى الفجوة الكارثية بين من يملك ومن لا يملك فى مصر ــ وتلك الفجوة كانت بمثابة حقيقة كبرى يحتكون بها يوميا فى حرم الجامعة.

أمران ساهما فى توثيق علاقتى بعمرو. أحدهما تمثل فى أسئلته الكثيرة عن تفاصيل العمل النقابى، وأدوات الدفاع عن حقوق العمال والموظفين وحمايتهم من الإجحاف إن من الفصل التعسفى أو من مستويات مرتبات لا تتناسب لا مع ساعات العمل ولا مع غلاء المعيشة، وفرص تحفيز أساتذة الجامعة على التضامن مع العمال والموظفين حين تتعسف إدارة الجامعة الأمريكية. أما الأمر الآخر فكان التعامل الكريم لعمرو مع أسئلتى الكثيرة أيضا عن ظروف عمله هو وزملائه، عن علاقته مع المسئولين عن القطاع الأمنى فى الجامعة، عن الكيفية التى يتصرف بها الجسد الطلابى (المتميز اقتصاديا واجتماعيا) مع موظفى الأمن وسبل الحد من تجاوزات بعض الطلاب، عن رؤيته لما يحدث فى الجامعة (وكان بها بين ٢٠١٣ و٢٠١٥ الكثير من الأنشطة الاحتجاجية) وفى مجمل الأحداث المصرية. وثق الحوار من علاقتى مع عمرو، ووثقت منها أيضا الأقدار الذى أتبعت رحيل أمى عن دنيانا برحيل والده.

كانت سعادة عمرو بمقدم شهر الصوم طاغية، وكان تدينه الهادئ يبهر، وكان حديثه عن راحة باله خلال رمضان على الرغم من مشاق العمل لساعات طويلة فى أيام شديدة الحرارة يعيدنى إلى أرض الواقع حين كنت أشكو من ساعات عمل أقل وفى مكتب مكيف، وكانت (ومازالت) رسائله الصوتية المرسلة باستخدام الهواتف المحمولة تصنع لى ابتسامة حقيقية.
***
ثم يأتى عم خميس، أحد حراس البناية السكنية التى كان بها بيت أسرتى الصغيرة فى حى الدقى والذى كانت فترة عمله فى المساء والليل دائما. وسبب ذلك معلوم لأغلبية المصريات والمصريين الذين يشترك معهم عم خميس فى الصبر على الظروف المعيشية الصعبة، فهو يعمل فى الصباح والظهيرة فى شركة حكومية للمياه ويحتاج لإعالة أولاده لعمل إضافى تحصل عليه كحارس أمن. لعم خميس صوت رقيق للغاية ولغة وردية مازال يسعدنى بها حين يتواصل معى برسائل نصية للتهنئة فى المناسبات المختلفة، ولم تفرض عليه مشاق الحياة وجها متجهما أو عبوسا. بل ظلت ابتسامته الرائعة كالعدوى التى سرعان ما تنتقل منه إلى معظم المترددين على المكان وإلى أقاربى وأصدقائى أيضا.

خلال شهر رمضان، كان لعم خميس جهاز راديو صغير لا يفارق الطاولة التى يجلس خلفها أبدا. كانت أمسيات رمضان بمسلسلاتها الإذاعية المتتالية تسعده للغاية، ولم يكن هو يبخل على بملخص لأحداث المسلسلات عند السؤال شريطة الجلوس معه لتناول كوب من الشاى. كان مشهد عم خميس منصتا إلى مسلسلات رمضان يذكرنى دائما بجدتى لأمى التى كانت تعشق المسلسلات الإذاعية، وبطباخها الطيب عم ثابت الذى كان يضع جهاز راديو صغير على أذنه اليمنى طوال الوقت ما لم يضطره العمل إلى غير ذلك ــ رحمهم الله جميعا. كنت أحب كثيرا هذا المشهد وما يستدعيه فى الذاكرة من مشاهد مشابهة، وخلال سنوات الحياة فى مصر تحول عم خميس وجهاز الراديو العجيب إلى طقس رمضانى بديع.

إلى الأصدقاء الثلاثة، إلى أحمد (أبوحميد) وعمرو (عمور) وعم خميس، أفتقدكم بشدة. رمضان كريم، كل شهر صيام وأنتم ومن تحبون بخير. على أمل اللقاء القريب، أمل انتهاء الصيام فى بلاد الجهة الأخرى من العالم، أمل ابتعاد بلادنا عن حاضر المظالم والانتهاكات الكثيرة.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات