على واجهة الصحيفة الكندية الشهيرة ظهرت فقرة واحدة على خلفية سوداء مُصمَتة، لتمَثّل الغلاف الذى اختارته هيئة التحرير للعدد الأسبوعىّ، وهو عددٌ ضخمُ الحجم، كثير الملاحِق والصفحات، يحمل فى العادة أهمية خاصة عند القُراء.
عنوان الفقرة: «confined» أى «معزول»، أما الفقرة نفسها فتتحدث عن رجل قضى ستمائة وأربعين يوما متصلة فى الحبس الانفرادى.
لم تكن المرة الأولى التى أصادف فيها مقالة بالصحيفة ذاتها حول هذا الموضوع، لكن أسلوب تقديمه هذه المرة، من خلال اقتباس وحيد على الصفحة الأولى، دون مُنافس ولا مُنازع، ودون أن تجاوره اقتباسات أخرى أو صور تجذب انتباه القارئين بعيدا عنه، كان مما يثير الانتباه والعجب.
أُفرِدَت ــ إضافة إلى الغلاف ــ صفحتان كاملتان لتغطية الجوانب المُتعلِقة بحياة الرجل واحتجازه، ثم استبقاءه بمعزل عن الآخرين لفترة تناهز العامين، وقد ظهر تنويه فى البداية يفيد أنه توفى فى مَحبسه الأسبوع الماضى.
***
أدهشنى أن تقوم الصحيفة القومية بتخصيص هذه المساحة الهائلة لأمر يحوى بلا شك نقدا عنيفا لأنظمة السجون، تماما مثلما أدهشتنى الافتتاحية الأخلاقية المُركزة. قالت الأسطر الثلاثة الأولى إن جرائمَ الرجل مُرَوِّعةٌ وإن سجلّه حافلٌ بالأزمات، كما أن الذنوب التى ارتكبها لا جدال فيها، بيد أن المُحرر جاء بالكلمة الفاصلة التى تَجُّب ما قبلها: «لكن».
«لكن» هذا الرجل تأثر جِذريا بحبسه مُنفردا، مَحكوما بنظامٍ شديد الصرامة والقسوة، مُقيد الحرية بشكلٍ مُبالغ فيه، بحيث لم يكن يحصل على فرصة للتريُّض إلا فى زنزانة أخرى عادية بها نافذة وهواء مُتجدد نظيف. قالت الجريدة إن الرجل تأذى نفسيا وإن مثله قطعا آخرين. لم تشكل جرائمُ الرجل عذرا ولا تبريرا ــ فى عرف القائمين على الصفحتين ــ لانتهاك حقوقه، ولا لخرقِ قواعد الأمم المتحدة المعروفة بقواعد نيلسون مانديلا، تلك التى تقضى بعدم جواز عزل السجين وحيدا، مدة تزيد على خمسة عشر يوما بأى حالٍ مِن الأحوال.
تذكرت على الفور هؤلاء الشبان المُقيدين فى سجوننا، المَحرومين مِن أبسط الحقوقِ المَنصوص عليها فى اللوائح والقوانين. أغلبهم ليس مُدانا بجريمة، لا قتل ولا اغتصب ولا مارس عنفا يقضى بحرمانه مِن التواصل مع آخرين، مع ذلك يُنَكَّل بهم تباعا ويُسَوَّمون أحد أشدّ أنواع الإيذاء النفسى عنفا وبشاعة؛ فيوضَعون فى الزنازين التى لا يطرق أبوابها سِواهم، لا زميل يبثون إليه همومهم، ولا صوت آخر غير أصواتهم، ولا رائحة جسد بشرى إلا رائحة عرقهم وإنهاكهم. هذه المعاملة يعدها الخبراءُ النفسيون ضربا مِن ضروب التعذيب، ينبغى أن يُحاكم القائمون عليه وأن ينالوا حسابا عسيرا وعقابا لا هوادة ولا تهاون فيه، ذلك أن الأثر مؤلمٌ ومخيفٌ، ربما يدفع المرءَ دفعا إلى اختبار بعض الاضطرابات النفسية الحادة التى تحتاج إلى علاج خاص وربما لا تشفى، وقد أشارت الصحيفة إلى أن بعض زملاء السجين المشار إليه كانوا يتساقطون تحت وطأة الضغط النفسىّ المريع وهم فرادى، فيتخيلون أصواتا أو يصرخون دون سبب واضح أو يحاولون الانتحار للتخلص مما هُم فيه.
***
قالت الصحيفة الكندية إن المسئولين عن نظام السجن، لم يجدوا إجابة أفضل مِن ادعاءهم أن جرائم الرجل العنيفة قد تحرض الآخرين على التحرش به ومُحاولة إيذاءه، وأن إبعاده عنهم هو الوسيلة المُثلى لحمايته. التزمت الصحيفة بموقفها؛ لم يكن هناك مجالٌ للدفاع والتبرير ولا لانتحال الأعذار: الرجل مُجرمٌ مُدان، لكنه كذلك شخصٌ له حقوق لا ينبغى أن تُنتَقَص، وإن انتُقِصَت كان الحدثُ جَلَلا.
أحاول أن أتخيل المُبرر المنطقى الذى قد يجده المسئولون عن السجون المصرية، ليفسروا به وضع الشبان المتهمين بقضايا سياسية، مُنفردين، فى زنازين تفتقر إلى أبسط الشروط التى تحفظ آدميتهم، لكنى أتراجع عن المحاولة، فلا مُساءَلَة لدينا ولا صحافة مُستقرة تملِك مِن الحرية ما يسمح لها بطرق مثل هذه الأمور بنبرةِ احتجاجٍ واثقةٍ، وبأسلوب تصاعدى ينتقل فيه الأمر مِن خبر صغير يأتى على استحياء فى صفحة مَنسية، إلى غلاف كئيب يحمل روح الحداد على البشر. أغلب المواقف صارت مُرتبِطة برضاء الحاكمين وبتوازنات السياسة وألعابها، تلك التى لا تعرف للإنسان قيمة، وقد صار الناس يدركون ألا مَحَلَّ لأخلاقٍ أو قيمٍ ومبادئ يتفق عليها الجميع، بغضِ النظر عن الخلافات والمُشاحنات والمعارك التى تُصَلصِلُ فيها السيوف.