منذ زوال حكم محمد مرسى يسود المجتمع حالة من النشوة الممزوجة لدى البعض بشعور متصاعد لإقصاء الإخوان المسلمين، والبعض يذهب لأبعد من ذلك بالدعوة إلى حل الأحزاب ذات الطبيعة الدينية. هناك أسباب تدعو إلى تفهم هذه الحالة منها الفشل الذريع فى الحكم طيلة العام الماضى الذى رافقه أخونة الدولة وإقصاء المختلفين، وشيوع حالة من التدين الشكلى الخالى من أى مضمون إيمانى، فضلا عن طرح الأطراف الإسلامية لقضايا لا تمت بصلة بنهضة المجتمع، رغم أن مشروع النهضة «الوهمى» كان لافتة الحكم، وكثيرون يرونها انتكاسة للتجربة الحضارية المصرية.
كل ذلك، رغم صحته، لا ينبغى أن يشكل قاعدة لاستبعاد الإخوان المسلمين، لأن فى ذلك خطورة على التجربة الديمقراطية المصرية، ويتناقض مع المنطق الليبرالى الذى نتمنى أن يسود الحياة السياسية. ويكفى أن نعتبر بتجربة مبارك التى خرج منها الإخوان المسلمين أكثر قوة ونفوذا وتعاطفا من جانب قطاعات شعبية عريضة وقعت فى أسر خطاب «المظلومية» الذى روجه أحفاد «حسن البنا»، ولا نفوت كذلك العظة من سقوط حكم محمد مرسى الذى سعى إلى «تمكين» الإخوان المسلمين من مفاصل الدولة، ودخل فى عداء سافر مع القضاة والإعلام، الأزهر والكنيسة، والمعارضة السياسية.
من هنا فإن التوصيف الصحيح للموجة الثورية الثانية فى 30 يونيو هو خروج الشعب على سلطة مستبدة، فشلت فى تحقيق أحلامها فى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، وهو توصيف موضوعى لا ينطوى على أية رغبة فى إقصاء أى فصيل سياسى أو يحمل مشاعر كراهية للإخوان المسلمين. القانون يأخذ مجراه فيما ارتكب من جرائم، ولكن لا يمتد الأمر إلى إقصاء اليمين الدينى أو حرمانه من الحضور السياسى فى المجتمع.
ولكن التجربة علمتنا أن تقدم المجتمع المصرى يرتبط بوضع ضوابط واضحة للعلاقة بين الدين والسياسة حتى لا نجد أنفسنا فى ذات الدائرة المفرغة، التى يدعى فيها فصيل الطهارة السياسية والأخلاقية فى مواجهة الأنجاس سياسيا وأخلاقيا على غرار المقارنة بين ميادين التظاهر، بين ميدان يتوضأ فيه الناس، وآخر يحوى السكارى والمتحرشين، أو اعتبار المعركة بين فسطاطين إيمان وكفر، أو بين مسلمين ومسيحيين، إلى آخر الممارسة الاختزالية الطائفية التى مارسها فصيل من التيار الإسلامى.
المسألة لا تتعلق بالإقصاء ولكن بالضوابط. كل حزب يختار مرجعيته لكنه يخاطب جمهوره ببرنامج، ويحشد أنصاره بالسياسات التى يقترحها وليس بإدعاء القداسة أو امتلاك الحقيقية وحده، ويطرح نفسه منافسا، لا رقيبا ولا قيما، يمارس ويدعو إلى السلمية، ولا يعتبر العنف خيارا يحق له اللجوء إليه، ويتعامل مع منافسيه على أنهم أنداد، وليسوا موضوعا للاتهام بالدونية السياسية أو غياب الأهلية الأخلاقية أو الدينية.
هذا هو السياج الذى ينبغى أن يحيط بالحياة السياسية، ويمتلك المجتمع السياسى شجاعة أن يخرج منه من لا يلتزم به، أو يدارى على فشله باستدعاء الدين أو يعجز عن المنافسة بالاحتماء بالمقدس. إذا التزمت الأحزاب الدينية بذلك ــ فكرا وممارسة ــ فلا مجال لاستبعادها، أما إذا خرجت عن هذه القواعد فتصبح ممارستها للحياة السياسية ضد الوطنية، وتحريفا لمفهوم السياسة ذاتها.