نشرت جريدة الشروق الجزائرية مقالا للكاتب التهامى مجورى، يوضح فيه ما هى نظرية المؤامرة، إذ يلجأ الفرد إلى إلقاء اللوم على الآخر للتهرب من مسئولياته؛ وهذا بالضبط ما يحدث مع شعوب الدول النامية، حيث تستسيغ الاعتقاد بمكائد الغرب ومؤامراته لإعاقة تقدمهم. لكن يرى الكاتب أن الجملة السابقة تعكس جزءا من الحقيقة وهى تآمر القوى الاستكبارية على الشعوب الضعيفة.. وهذا الظاهر للعيان فى قانون العلاقات الدولية وما يحكمه من مصالح. جوهر القول: يؤمن الكاتب بأن الاعتقاد بنظرية المؤامرة أمر يعود لأسباب نفسية... ونعرض من المقال ما يلى:
نظرية المؤامرة، وكما يستشهد بها أصحابها، عبارة عن صورة ذهنية للمهزوم أمام القوى التى لم يستطع التأثير فيها، أو التى يخاف من تأثيرها عليه، فكل حدث يقع لهذا المهزوم يفسره على أنه تآمر عليه، فيزداد بذلك هزيمة على هزيمته، وتزداد تلك القوى المهيمنة قوة فى التحكم فيه وعرقلة ما يريد فعله فى مسيرته النضالية، مما يساعده على تخطى الصعاب.
هذه الصورة تظهر وتُثبَّت وترسَّخ عندما يفقد الإنسان جميع وسائل المقاومة التى تحت يديه، أو يشعر بفقدانها وهى تحت سلطانه، ولكن سوء تصرفه حرمه الإفادة منها، فيبحث له عن مبررات عملية تعفيه من القيام بالواجب.
وقد لاحظنا هذا فى جميع الشعوب التى استبدت بها أنظمتها التى تحكمها وطال أمدها على ذلك، استعمارية كانت أو حكاما فاسدين من أبنائها، إذ أصبحت ترى كل حركة فى المجتمع تريد الخروج عن المألوف، مؤامرة على الشعب وفعلا يصب فى خانة الأعداء، فيزيد ذلك من هيمنة الاستعمار، أو تمديد عمر النظام المستبد.
وفى المقابل توجد صورة أخرى كرد فعل على ذلك، تكاد تجمع فيها الشعوب المغبونة ونخبها، على أن المؤامرة وَهْمٌ من صنع خيالات أصحابها، وأن ما يعانون منه مجرد أخيلة صنعها عجزهم عن اللحاق بالركب، فأصبحوا يرون العالم المتقدم مجرد مؤامرة عليه!
والسبب فى هذه الوضعية النفسية الحرجة المضطربة للشعوب المغبونة، أن القضية متعددة المنافذ والمداخل، وكل نافذة ومدخل فيه جزء من الحقيقة… فالضعف والتخلف واللافاعلية منفذ ومدخل لمثل هذه الاختلالات النفسية، والمنبهرون بالمتآمر الغربى منفذ ومدخل أيضا، والشبه التى تحيط بالواقع منفذ ومدخل كذلك، وخضوع المنظومة الدولية للأقوى بدل الأكثر عدلا وإنصافا منفذ ومدخل، وكل هذه المنافذ والمداخل متظافرة قادرة على قلب الحقائق، وجعل كل تصور مقبول، فمن يقول إن نظرية المؤامرة وهمٌ لا حقيقة له محق بقدر ما، والواقع شاهد على ذلك سواء فى صورة الضعف الذى تعانى منه الأمة والغثائية الغالبة عليه منذ قرون، أو فى صورة قوة الخصم الذى لا غالب له منذ قرون أيضا، لأن الأصل فى الموضوع وجوهره موازين قوة.
الشعور بالغبن والظلم، المتولد عن الضعف والتخلف واللافاعلية، يجعل كل حركة تصدر عن الخصم والعدو الذى هو الاستعمار الغربى عموما، لا يرجى منه خير، ولو كان ظاهره فعل خير؛ لأن هذا الاستعمار عوّدنا على أنه لا يفعل خيرا من أجل الشعوب، وإذا فعل شيئا من ذلك فإنما يفعله من أجل الحصول على الأفضل له.
هذا المنفذ والمخرج حقيقة لا يجادل فيها أحد، بما فى ذلك الغرب نفسه؛ لأن علاقاته مع الغير مبنية على المصلحة ــ البراجماتية ــ فاستعمر الشعوب لما كانت له القدرة على التحكم فيها، ولكن لما أصبح وجوده فى هذه المستعمرات يكلفه أكثر مما يجنى منها، فضَّل الانسحاب ووضع الخطط البديلة التى تضمن له الاستمرار.
الواقع بما هو عليه من اختلالات فى موازين القوى لا يسمح بالنهضة لهذه الشعوب، بسبب غياب الكثير من شروطها، ولكن هذه الأسباب لا تبرر التآمر والاعتداء الذى تمارسه القوى الاستعمارية على هذه الشعوب الضعيفة.
ومن هنا وجب الانتباه إلى الخلط والشُّبه المشار إليها آنفا، التى ربما استساغتها بعض نخب هذه الشعوب، التى توهمت أن كل ما يفعله القوى والمتقدم للشعوب الفقيرة، يكون فى صالحها بموجب القرارات الدولية، والجانب الأخلاقى الإنسانى الذى يفرض على الاحتلال قيما أخلاقية تجاه شعوب مستعمراته، وبالتالى لا وجود للمؤامرة التى تتوهمها الشعوب من فرط بغضها للاستعمار، إذ لا تثق فى كل ما يأتى منه، وأغلب من يتبنى هذا التوجه المنبهرون بما يفعل الغرب فى المناطق الفقيرة، وهو منفذ ومخرج أيضا فيه من الحقائق ما فيه، ولكن لا يوجد فيه ما ينفى حقائق تآمر القوى الاستكبارية وظهور ذلك للعيان على مسرحية علاقات التعاون بين الشعوب.
والحصيلة الماثلة للعيان هى أن المتآمرين من الأقوياء على الضعفاء قد امتلكوا من القدرة على حبك مكائدهم، إذ قلّبوا الحقائق إلى أوهام كما قلبوا الأوهام حقائق، ومن ثم صعب على الشعوب المريدة للحق والحرية المقاومة بالأساليب التقليدية؛ بل صعب عليها التفريق بين التطور الطبيعى للمجتمع المفضى للانعتاق، والمؤامرات الحقيقية التى تعمل على استنزافه وتحريف حركته ونشاطه الاستقلالى عن مساره الطبيعى.
النص الأصلى