دائرة الثقة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دائرة الثقة

نشر فى : السبت 10 أكتوبر 2015 - 9:45 ص | آخر تحديث : السبت 10 أكتوبر 2015 - 9:45 ص

رجل مخابرات قديم، تقاعد لكنه لم يكُف عن إدارة حياته الاجتماعية بالطريقة التى تعود عليها طيلة سنوات عمله. صنع لنفسه دائرة مُقربة تكاد لا تضم سوى أفراد عائلته، وأطلق عليها مُسمى «دائرة الثقة». يتشارك الأشخاص الذين ينتقيهم، ويسمح لهم بدخول الدائرة، التفاصيل والأسرار كلها، ولا يُتاح للآخرين الانضمام إليها أبدا. يستخدم «جاك» وسائله المخابراتية فى السيطرة على تصرفات المحيطين به وتوجيههم وفقا لمبادئه، وكذلك فى إقصاء المتطفلين، يبسط الحماية على دائرته الأثيرة، ويحافظ على تماسكها وأمنها ضد أى محاولة للاختراق. الفيلم الكوميدى هوmeet the parents إنتاج سنة 2000 وإخراج جى روتش، وبطولة روبرت دى نيرو.
***
تبدو مسألة الثقة بمثابة أزمة تلازم أصحاب السُلطة والنفوذ. أزمة تدعوهم دائما للتفكير فى حلول جِذرية ومُريحة، لكن تلك الحلول لا تُسهم بطبيعتها، ولاعتلال منشأها، فى دفع المجتمع خطوات إلى الأمام. كثيرا ما نوقش سؤال الاختيار ما بين أهل الثقة، وأهل الكفاءة والخبرة، وكثيرا أيضا ما فازت المجموعة الأولى فى الإجابة، ليعكس فوزها خوف الحاكم على موقعه، وتَشَكُكه فى الآخرين. لا يستعين حُكامنا فى غالبية الأحوال سوى بمَن يثقون فى ولائه التام؛ لا للوطن، بل لأشخاصهم وأنظمتهم، باعتبارهم أرباب الوطنية دون منازع، ولا تشكل ترشيحات الأجهزة الأمنية لأسماء أشخاص يمكن اختيار وزراء مِن بينهم، سوى تطبيقٍ لمبدأ الدائرة الموثوق فيها.
حتى وقت قريب دارت التساؤلات والتكهنات ــ وربما لا تزال تدور ــ حول الجماعة التى ستكون لها الحظوة: تبارى الناس على معرفة فيمن سيثق الحاكم، أو فى براعة دولته العميقة، أم فى دقة وتنظيم الجماعة الصُغرى التى ينتمى إليها، أم فى فئات المجتمع التى بادرت بمنحه ثقتها أولا؟
لم يرَ «جاك» أشخاصا جديرين بثقته الخالصة سوى بناته وزوجته تقريبا، إضافة إلى رفاق المؤامرات والتخطيطات فى ماضيه، كان يُخضِع مَن يقتربون مِنه إلى اختبارات مدهشة، ولا يلبث أن يعلن رسوبهم، ويحاول العثور على نماذج بشرية تطابق أفكاره الخاصة، وتحوز رضاه. استعدت مشاهد الفيلم التى يطرد فيها رجل المخابرات العتيد زوج ابنته المُنتظَر مِن دائرة ثقته شر طرده، وأنا أتابع فى الآونة الأخيرة مَن يتم نبذهم على أرض الواقع، بدا أن دائرة الثقة الراهنة قد ضاقت عن بعض رجال المؤسسة الدينية، وعن بعض الساسة المخضرمين، كما ضاقت عن بعض رجال المال أو هم تركوها بإرادتهم، وضاقت كذلك عن نشطاء كانوا فى مُعسكر السُلطة ما بعد الثلاثين مِن يونيو ثم شعروا بالخديعة.
***
حين قرأت عن برامج التأهيل الرئاسية التى تعلن عن إعداد الشباب لمواقع القيادة، تبادر إلى ذهنى أن ثمة مشروعا لصناعة دائرة ثقة جديدة يدخلها الناس؛ لا باستيفائهم الشروط فقط، بل بخضوعهم لعملية برمجة، وإعادة تشكيل تجعلهم مُلائمين لمتطلباتها، ومُستجيبين إلى رؤية صانعيها وتوقعاتهم. يبدو أن أعضاء هذه الدائرة سيُنتخَبون مِن المجتمع، لا مِن رجال الدولة. مِن الدائرة الواسعة التى تضُم غالبية البشر العشوائيين فى مَسلكهم ونمَط مَعيشتهم، لا مِن الدائرة الصغيرة التى ضمت دوما أناسا مُختارين بعناية فائقة، وعلى أُسُس مُحددة.
تساءلت عن السبب الذى يدعو السُلطة إلى تكَبُد مثل هذه المشقة، ووجدت جُزء مِن الإجابة فى مقالة شيقة لجميل مطر، نُشِرت منذ فترة وجيزة. تفتحت أعيننا على مجتمع «عميق»، قديم قِدم التاريخ، وراسخ الجذور، فاق وتفوق فى درجة عُمقه على الدولة نفسها. قام بإفرازها، وبتوطيد دعائمها، وحين تضخمت استوعبها، وتغلب عليها وطوعها، وصار يُسخرها لخدمته بشتى الأساليب كى تسير به الحياة.
هذا المجتمع العميق أثبت صموده وقدرته على مقاومة كل تغيير. يكفى النظر إلى الباعة الجائلين، الذين ينظمون حيواتهم فى الشوارع، ويعقدون الاتفاقات، ويثبتون جذورهم فى كل مكان وكأنهم ولدوا فيه، ولا تتمكن الدولة سطحية كانت أو عميقة مِن انتزاعهم، وإخلاء أماكنهم. يكفى النظر إليهم لمعرفة إلى مجتمع ننتمى. ذاك المجتمع بعينه نظم نفسه فى غياب الدولة وأجهزتها الحيوية، وقام بتسيير جميع الأمور دون انهيار أو فوضى شديدة. هو أيضا الرافض لاحقا وفى كل دقيقة، الامتثال إلى إشارات المرور، وكاميرات الرادار، واتجاهات السير، وهو العابث بنظافة الشوارع والحدائق والمدارس ودور الاستشفاء، والباصق فى وجه الأرض ملايين البصقات اليومية. هذا المجتمع ربما أدركت السُلطة مُؤخرا استحالة السيطرة والتغلب عليه، فقررت أن تجرب ترويضه بطريق مختلفة؛ لا تستبعده مِن دوائر الثقة، كما جرت العادة، بل تجتذب إليها بعض قطاعاته، وتدربها على الدوران فى فلك الحاكمين.
***
ربما ضاق النظام بدائرة الثقة التقليدية، ورآها عاجزة عن تحقيق أغراضه، فقرر أن يقوضها ويصنع أخرى جديدة، لكنى أظن أن هذا المجتمع «العميق» بمختلف فئاته ومستوياته، صانع الدائرة الأوسع التى تبقى بمنأى عن الأسرار، والتى تعتمد على فراستها ومهارتها الخاصة فى معرفة ما يجرى مِن حولها، سيظل قادرا على المُعاندة، والتحدى، وعلى رفض أى وضع جديد يُفرض عليه، ما دام مُقتنعا بأن الحاكمَ بعيدٌ، وأنه لا ينفك يبحث عن مُريديه، وأن تحالفاته قاصرة عن وضع حدود لهموم ومُعاناة هى بالمثل «عميقة» ومُتوطنة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات